الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وما تفجر من بين أصابعه من الماء .

التالي السابق


وفي معجزاته صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره (وما تفجر من بين أصابعه) الشريفة (من الماء) الطهور بالمشاهدة، وهو أشرف المياه، وقد تكررت منه صلى الله عليه وسلم هذه المعجزة في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، قال القرطبي: ونقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: هو أبلغ من المعجزة من نبعه من الحجر، حيث ضربه موسى عليه السلام بالعصا، فتفجرت منه المياه; لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلافه من بين اللحم والدم. اهـ .

وقد فات العراقي هذا الحديث، فلم يذكره في تخريجه، ونحن نذكر بعون الله تعالى من رواه من الصحابة، ومن أخرجه: رواه أنس وجابر وابن مسعود وابن عباس وأبو ليلى الأنصاري وأبو رافع، أما حديث أنس فأخرجه الشيخان والبيهقي وابن شاهين، لفظ الصحيحين: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس، حتى توضؤوا من عند آخرهم.

وفي لفظ للبخاري: كانوا ثمانين رجلا. وفي لفظ له: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، فقلنا لأنس: كم كنتم؟ قال: كنا ثلاثمائة.

ولفظ البيهقي: قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فأتي من بعض بيوتهم بقدح صغير، فأدخل يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربعة، ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: "هلموا إلى الشراب". قال أنس: بصر عيني ينبع الماء من بين أصابعه، فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعا.

ولفظ ابن شاهين: قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال المسلمون: عطشت دوابنا وإبلنا. فقال: "هل من فضلة ماء؟". فجاء رجل في شن بشيء، فقالوا: هاتوا صفحة. فصب الماء، ثم وضع راحته في الماء، قال: فرأيتها تخلل عيونا بين أصابعه. قال: فسقينا إبلنا ودوابنا، وتزودنا. فقال: "أكفيتم؟". فقالوا: نعم، اكتفينا يا رسول الله. فرفع يده، فارتفع الماء.

وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان وأحمد والبيهقي وابن شاهين، لفظ الصحيحين: قال: عطش الناس يوم الحديبية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها، وجهش الناس نحوه، فقال: "ما لكم؟". فقالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ما نتوضأ، ولا ما نشربه، إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مئة.

وفي رواية الوليد بن عبادة بن الصامت عنه في حديث مسلم الطويل، في ذكر غزوة بواط، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر، ناد الوضوء". وذكر الحديث بطوله، وأنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شحباء، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فغمزه وتكلم بشيء لا أدري ما هو، وقال: "ناد بجفنة الركب". فأتيت بها فوضعتها بين يديه. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط يده في الجفنة وفرق أصابعه، وصب عليه جابر، فقال: "بسم الله". قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستسقاء، فاستقوا حتى رووا، فقلت: هل بقي من أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى.

ولفظ أحمد في مسنده: اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه العطش، فدعا بعس فصب فيه شيئا من الماء، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وقال: "استقوا". فاستقى الناس، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه. وفي لفظ من حديثه أيضا قال: فوضع رسول الله [ ص: 208 ] صلى الله عليه وسلم كفه في الماء، ثم قال: "بسم الله"، ثم قال: أسبغوا الوضوء". قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء، يومئذ تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون.

وفي لفظ له من طريق نبيح العنزي عنه: فجاء رجل بإداوة فيها شيء من ماء، ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح، فقال: "على رسلكم". فوضع كفه في القدح، ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال: فلقد رأيت العيون، عيون الماء، تخرج من بين أصابعه.

ولفظ البيهقي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابنا عطش، فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوضع يده في تور من ماء بين يديه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون، قال: "خذوا بسم الله". فشربنا، فوسعنا وكفانا، ولو كنا مئة ألف لكفانا. قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفا وخمسمئة.

وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البخاري من طريق علقمة عنه، ولفظه: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا من معه فضل ماء". فأتي بماء، فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث ابن عباس فأخرجه الدارمي وأبو نعيم بلفظ: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، فطلب الماء، فقال: لا والله، ما وجدت الماء. قال: "فهل من شن؟". فأتاه بشن، فبسط كفيه فيه، فانبعث تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب، وغيره يتوضأ.

وأما حديث أبي ليلى الأنصاري فأخرجه الطبراني وأبو نعيم، وأما حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجه أبو نعيم من طريق القاسم بن عبدالله بن أبي رافع عن أبيه عن جده .



(تنبيه)

ظاهر الأحاديث المتقدمة أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء، فيراه الرائي نابعا من بين أصابعه، وظاهر كلام القرطبي أنه ينبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، وبه صرح النووي في شرح مسلم، ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج - وفي رواية: ينبع- من بين أصابعه، وهذا هو الصحيح، وكلاهما معجزة له صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملامسة ماء ولا وضع إناء تأدبا مع الله تعالى; إذ هو المنفرد بابتداع المعلومات وإيجادها من غير أصل .



(تكميل)

ومن هذا القسم مما لم يذكره المصنف خرور الأصنام سجدا ليلة ولادته، وسقوط شرف إيوان كسرى، وإظلال الغمام عليه، وانقلاع الشجر ماشية إليه، وحنين الجذع الذي كان يخطب إليه لما انتقل إلى المنبر عنه، وتسليم الحجر والشجر عليه، وظهور البركة في الماء القليل الذي مج فيه بعدما نزحت البئر في الحديبية، وشرب القوم والإبل، وكانوا ألفا وأربعمئة، وأكل الجم الغفير من أقراص يأكلها إنسان واحد، في قصة أبي طلحة، وكانوا سبعين أو ثمانين رجلا، وفي قصة جابر: وكانوا ألفا. وإخبار الشاة المشوية له بأنها مسمومة، وغير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في خصوص ذلك، كالدلائل لكل من البيهقي وأبي نعيم، وفي معاجم الطبراني، وفي كل من الكتب الستة التي هي دواوين الإسلام، وغيرها من مطولات كتب الحديث أبواب مفردة لذلك، وهذا النوع أحد ما عقد له في كتاب الشفاء باب، وقد تضمن الباب المعقود له ثلاثين فصلا، والله أعلم .



إكمال التكميل

الوارد من هذه الخوارق - وإن كان آحادا- لا يفيد العلم، فالقدر المشترك بينها - وهو ظهور الخارق على يده- متواتر بلا شك، فيفيد العلم قطعا، كجود حاتم، وشجاعة علي، فقول الإمام أبي القاسم السهيلي في الروض: إن بعض هذه الخوارق علامة للنبوة، ولا تسمى معجزة; بناء على عدم اقترانها بدعوى النبوة; ليس بمقبول; فإنه صلى الله عليه وسلم لما ادعى النبوة انسحب عليه دعوى النبوة من حين ابتدائها إلى أن توفاه الله تعالى، فكأنه في كل ساعة يستأنفها، فكل ما وقع له من الخوارق كان معجزة; لاقترانه بدعوى النبوة حكما، وكأنه يقول في كل ساعة: "إني رسول الله، وهذا دليل صدقي"، والله أعلم .




الخدمات العلمية