الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الرابع في سيرته -صلى الله عليه وسلم- في النذور

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في نهيه صلى الله عليه وسلم عن النذور

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذور ، وقال : إنه لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي لفظ : من اللئيم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج من البخيل» .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في سيرته صلى الله عليه وسلم في نذر الطاعات والمباحات

                                                                                                                                                                                                                              روى الحارث بسند ضعيف عن فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا ، فقال : «إن أتاني منه خبر صالح ، لأحمد الله حق حمده» ، فأتاه منهم خبر صالح ، فقال : «اللهم لك الحمد شكرا ، ولك المن فضلا» ، فقال له عمر : إنك قلت : لإن أتاني منهم خبر صالح لأحمدن الله حق حمده ، قال : قد قلت : «اللهم لك الحمد شكرا ، ولك المن فضلا» ورواه الطبراني عن كعب بن عجرة بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن النواس بن سمعان -رضي الله تعالى عنه- قال : سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن ردها الله علي لأشكرن ربي عز وجل» فوقعت في حي من أحياء العرب فيه امرأة مسلمة ، فكانت الإبل إذا سرحت سرحت متوحدة ، فإذا بركت الإبل بركت متوحدة ، واضعة بجرانها ، فركبتها وقدمت بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآها قال : الحمد لله ، فانتظرنا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه قد نسي ، قالوا : يا رسول الله ، إنك قلت : لئن ردها الله علي لأشكرن الله تعالى ، فقال : أولم أقل : الحمد لله .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 103 ] وروى أبو داود عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال : إن امرأة قالت : يا رسول الله ، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف ، قال أوفي بنذرك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود والإمام أحمد واللفظ له عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن رجلا جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس قريب من المقام ، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا رسول الله ، إني نذرت إن فتح الله على النبي وعلى المسلمين مكة لأصلين في بيت المقدس ، وإني قد وجدت رجلا من أهل الشام ههنا في نفر يمشي مقبلا معي ومدبرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ههنا فصل» ، فقال الرجل قوله ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ههنا فصل» ، ثم قالها الرابعة مقالته هذه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا لقضى عنك كل صلاة صليتها في بيت المقدس» .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : في سيرته صلى الله عليه وسلم في نذر المعاصي

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري وأبو داود والدارقطني عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم في الشمس ، ولا يقعد ، ويصوم ولا يفطر النهار ، ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليستظل وليقعد وليتكلم ، وليتم صومه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الأئمة إلا مالكا ، والدارقطني عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم في الشمس ، ولا يقعد ، ويصوم ولا يفطر النهار ، ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليستظل وليقعد وليتكلم ، وليتم صومه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الأئمة إلا مالكا ، والدارقطني عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن عمر قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما ، وفي رواية : ليلة في المسجد الحرام ، فقال : أوف بنذرك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الجماعة عن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال : نذرت أختي أن تمشي إلى البيت الحرام حافية غير مختمرة ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته ، فقال : [ ص: 104 ] لتمش ولتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام ، إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها ، فلتركب ولتهد بدنة .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو داود عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخته نذرت أن تحج إلى البيت ماشية فشكا إليه ضعفها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لغني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والخمسة عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادي بين ابنيه ، فقال : ما بال هذا ؟ قالوا نذر أن يمشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله- عز وجل- غني عن تعذيب هذا نفسه فليركب» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود عن ثابت بن الضحاك ، وابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلا نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، قال ابن عباس : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ، قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ، قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوف بنذرك» ، فإنه لا وفاء في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إني نذرت ناقتي وكيت وكيت ، فقال : أما ناقتك فانحرها ، وأما كيت وكيت فمن الشيطان» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والأربعة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى أعرابي قائما في الشمس ، وهو يخطب ، قال : ما شأنك ؟ قال : نذرت يا رسول الله ، أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس هذا بنذر ، إنما النذر ما ابتغي به وجه الله» .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 105 ] وروى الإمامان الشافعي وأحمد والستة إلا مسلما عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من نذر أن يطيع الله فليوف به» وفي لفظ : «فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله ، فلا يف به» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي عن عمران بن الحصين -رضي الله تعالى عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارقطني عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نذر إلا فيما أطيع الله عز وجل فيه ، ولا يمين في غضب ، ولا عتاق فيما لا يملك» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارقطني عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من جعل لله عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كفارة النذر كفارة اليمين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية