الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول :

                                                                                                                                                                                                                              قوله- صلى الله عليه وسلم- : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » .

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في تأويل هذا الحديث ، فقيل : إن الصلاة في مسجده- صلى الله عليه وسلم- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف صلاة .

                                                                                                                                                                                                                              ونقل أبو عمر عن جماعة من أهل الأمر : أن معناه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة ، ثم أيده بما أخرجه من حديث ابن عمر مرفوعا «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام؛ فإنه أفضل فيه بمائة صلاة» .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني :

                                                                                                                                                                                                                              قوله- صلى الله عليه وسلم- : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » .

                                                                                                                                                                                                                              قيل : هو نفي بمعنى النهي .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : لمجرد الإخبار ، لا نهي ولا دلالة فيه على التحريم؛ إذ النفي لا يقتضي النهي مطلقا ، وعلى تقدير أنه يقتضي النهي ، فإنما يقتضي النهي فيما وقع عليه النفي ، والنفي ها هنا ليس لنفي الحقيقة ، وإنما هو لنفي مقصود من مقاصدها ، ولا يتعين أن يكون الجواز المطلق ، جاز أن يكون : لا تشد الرحال وجوبا أو ندبا أو طاعة مسنونة بخصوصيتها لا بنوعها ولا بحسنها ، وتعين أحد المحتملات يحتاج إلى دليل ، وبتقدير أن يكون بمعنى النهي ، فلا نسلم أن النهي في مثل ذلك يقتضي التحريم ، والأمر يقتضي الوجوب ، وإطلاق أئمة الأصول أن النهي يقتضي التحريم ، والأمر يقتضي الوجوب محمول على الأمر بصيغة «افعل» والنهي بصيغة «لا تفعل» إذ هو الذي يصح فيه دعوى الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما كان موضوعا حقيقة بغير الأمر والنهي ، ويفيد معنى أحدهما كالخبر بمعنى الأمر ، والنفي بمعنى النهي ، فلا يدعي فيه أنه حقيقة في وجوب ولا تحريم؛ لأنه مستعمل في غير موضوعه إذا أريد الأمر والنهي ، ودعوى كونه حقيقة في إيجاب أو تحريم وهو موضوع لغيرهما مكابرة ، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الفقهاء ، ويعبرون بلفظ أئمة الأصول ويدخلون فيه كلما [ ص: 353 ]

                                                                                                                                                                                                                              أفاد نهيا أو أمرا ، والمحقق يعرف المراد ويضع كل شيء في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                              ذكر ذلك كله شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني في كتاب «العمل المقبول في زيارة الرسول» قال النووي : معناه الأفضلية في شد الرحال إلى مسجد غير هذه الثلاثة ، ونقله عن الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                              وقال العراقي : من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط ، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من مساجد غير هذه الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما فضل غير المساجد من الرحلة في طلب العلم وزيارة الصالحين والإخوان والتجارة والتنزه ونحو ذلك فليس داخلا فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ورد ذلك مصرحا في رواية أحمد .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظه : لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشيخ تقي الدين السبكي : ليس في الأرض بقعة لها فضل ثوابها حتى تشد إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة ، ولا شك أن بقاع المساجد الثلاثة وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- هي أفضل بقاع الأرض ، وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- ومسجد مكة والمدينة أفضل من المسجد الأقصى ، واختلف أيهما أفضل : مسجد مكة أو مسجد المدينة ؟

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال القاضي عياض بعد حكاية الخلاف : ولا خلاف أن موضع قبره- صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              ولا ريب أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضل المخلوقات ، فليس في المخلوقات على الله تعالى أكرم منه ، لا في العالم العلوي ولا في العالم السفلي كما تقدم في الباب الأول من الخصائص . قال بعضهم : كيف يمكن انفكاك المؤمن المعظم للنبي- صلى الله عليه وسلم- المعتقد شرف تلك البقعة أن يشد الرحال إليها ويدخل المسجد ويصلي فيه ولا يصلي إلى الروضة الشريفة التي في الحجرة ؟ وفي الحديث أنها روضة من رياض الجنة ، وكيف يصلي إلى الروضة والقبر ويعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمع كلامه إذا سلم عليه ، ويرد عليه السلام ، ويسعه أن لا يقصد الحجرة الشريفة والقبر ، ويسلم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن وقع هذا لأحد لا يكون قلبه معمورا بحب النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن تداركه الله تعالى برحمته وجد من نفسه ذلك ، وكذلك لو قصد زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- لم ينفك قصده عن قصد المسجد ، وهذا شأن الزوار .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال الإمام أبو عمر بن عبد البر : بعد أن ذكر حديث الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا وليس في إتيانه- صلى الله عليه وسلم- مسجد قباء ما يعارض قوله- صلى الله عليه وسلم- : «لا تعمل المطي» .

                                                                                                                                                                                                                              لأن قوله ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه صلاة [ ص: 354 ] في أحد المساجد الثلاثة أنه يلزمه إتيانها دون غيرها ، وأما إتيان قباء وغيرها من مواضع الرباط فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال العلامة ابن جملة : وهذا الذي ذكره هو الحق الذي لا محيد عنه؛ ولهذا تجد الأئمة من الفقهاء والمحدثين يذكرون الحديث في باب النذر ، والسفر للجهاد ، وتعلم العلم الواجب ، وبر الوالدين ، وزيارة الإخوان ، والتفكير في آثار صنع الله كله مطلوب للشارع وجوبا واستحبابا ، والسفر للتجارة والأعراض الدنيوية جائز ، وكله خارج من هذا الحديث ، فلم يبق إلا شد الرحل للمعصية ، وحينئذ هو الممنوع ، ولا يختص المنع بشد الرحل باستحسان الله ، أيكون السفر لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذا القسم ، لقد اجترأ على الله وعلى رسوله من قال هذا ، وهو كلام يدور حول الاستهانة وسوء الأدب في إطلاقه ما يقتضي كفر قائله ، نعوذ بالله من الخذلان ، وكذلك ليس قوله- صلى الله عليه وسلم- «لا تتخذوا قبري عيدا وتجعلوا بيوتكم صورا» . ما يعارض ما تقدم؛ لأن سياقه يقتضي دفع توهم من توهم أن الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- لا تكون مؤثرة إلا عند قبره ، فيفوت بسبب ذلك ثواب الصلاة عليه من بعد؛ ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم- : «صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم» .

                                                                                                                                                                                                                              ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشد الرحل ، لغرض دنيوي كالتجارة ، فإذا جاز ذلك فهذا أولى؛ لأنه من أعظم الأغراض الأخروية؛ فإنه في أصله من الآخرة لا سيما في هذا الموضع ، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشده . [ ص: 355 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية