الآية الخامسة قوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد } : فيها ست مسائل :
المسألة الأولى أما " عاد " فمعلومة قد جرى ذكرها في القرآن كثيرا ، وعظم أمرها . [ ص: 338 ]
المسألة الثانية قوله : إرم فيه ستة أقوال : الأول أنه اسم جد عاد ; قاله . الثاني : محمد بن إسحاق إرم : أمة من الأمم ; قاله . الثالث : أنه اسم قبيلة من مجاهد عاد ; قاله . وقيل وهو : الرابع هو قتادة إرم بن عوص بن سام بن نوح عليه السلام . الخامس أن إرم الهلاك : يقال : أرم بنو فلان أي هلكوا . السادس أنه اسم القرية .
المسألة الثالثة قال القاضي : لو أن قوله : إرم يكون مضافا إلى عاد لكان يحتمل أن يكون مضافا إلى جده أو إلى إرم . فأما قوله عاد منون فيحتمل أن يكون بدلا من جده ، ويحتمل أن يكون وصفا زائدا لعاد على القول بأنها أمة ، وكذلك إذا كان قبيلة منها ، وكذلك إذا كان اسم القرية . ويحتمل إذا كان بمعنى الهلاك أن يكون بدلا ، لولا أن المصدر فيها إرم بكسر الفاء . فالله أعلم بما تحت ذلك من الخفاء .
المسألة الرابعة قوله : { ذات العماد } : فيه أربعة أقوال : الأول أنهم كانوا أهل عمود ينتجعون القطر . الثاني : أنه الطول ، كانوا أطول أجساما وأشد قوة . وزعم أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا . وروي عن قتادة سبعون ذراعا ، وهو باطل ; لأن في الصحيح أن الله خلق ابن عباس آدم طوله ستون ذراعا في الهواء ، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن . الثالث : أن العماد القوة ، ويشهد له القرآن . الرابع أنه ذات البناء المحكم ، يقال : إن فيها أربعمائة ألف عمود .
المسألة الخامسة في تعيينها : وفيه قولان :
[ ص: 339 ] الأول أن أشهب قال عن : هي مالك دمشق ; وقال : هي محمد بن كعب القرظي الإسكندرية . وتحقيقها أنها دمشق ; لأنها ليس في البلاد مثلها وقد ذكرت صفتها وخبرها في كتاب ترتيب الرحلة للترغيب في الملة ، وإليها أوت مريم ، وبها كان آدم ، وعلى الغراب جبلها دم هابيل في الحجر جار لم تغيره الليالي ، ولا أثرت فيه الأيام ، ولا ابتلعته الأرض ، باطنها كظاهرها ، مدينة بأعلاها ، ومدينة بأسفلها ، تشقها تسعة أنهار ; للقصبة نهر ، وللجامع نهر ، وباقيها للبلد ، وتجري الأنهار من تحتها كما تجري من فوقها ، ليس فيها كظامة ولا كنيف ، ولا فيها دار ، ولا سوق ، ولا حمام ، إلا ويشقه الماء ليلا ونهارا دائما أبدا ، وفيها أرباب دور قد مكنوا أنفسهم من سعة الأحوال بالماء ، حتى إن مستوقدهم عليه ساقية ، فإذا طبخ الطعام وضع في القصعة ، وأرسل في الساقية ; فيجرف إلى المجلس فيوضع في المائدة ، ثم ترد القصعة من الناحية الأخرى إلى المستوقد فارغة ، فترسل أخرى ملأى ، وهكذا حتى يتم الطعام . وإذا كثر الغبار في الطرقات أمر صاحب الماء أن يطلق النهر على الأسواق والأرباض فيجري الماء عليها ، حتى يلجأ الناس في الأسواق والطرقات إلى الدكاكين ، فإذا كسح غبارها سكر الساقياني أنهارها ، فمشيت في الطرق على برد الهواء ونقاء الأرض ، ولها باب جيرون بن سعد بن عبادة ; وعنده القبة العظيمة والميقاتات لمعرفة الساعات ، عليها باب الفراديس ليس في الأرض مثله ، عنده كان مقري ، وإليه من الوحشة كان مفري ، وإليه كان انفرادي للدرس والتقري . وفيها الغوطة مجمع الفاكهات ، ومناط الشهوات ، عليها تجري المياه ، ومنها تجنى الثمرات ; وإن في الإسكندرية لعجائب لو لم يكن إلا المنار فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد ، ولكن لها أمثال ، فأما دمشق فلا مثال لها .
وقد روى معن عن أن كتابا وجد مالك بالإسكندرية فلم يدر ما هو ، فإذا فيه : أنا شداد بن عاد الذي رفع العماد ، بنيتها حين لا شيب ولا موت قال : إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون بها جنازة . [ ص: 340 ] مالك
وذكر عن ثور بن زيد أنه قال : أنا شداد بن عاد ، أنا الذي رفعت العماد ، أنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع ، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .