قوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة - في قول مقاتل والكلبي - فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه وأن . بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده ; أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب المدينة فإنها واسعة ; لإظهار التوحيد بها . وقال ابن جبير : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق . وقاله وعطاء مالك . وقال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا وقال مطرف بن الشخير : المعنى : إن رحمتي واسعة . وعنه أيضا : إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض قال : إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم . وقيل : المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها . سفيان الثوري فإياي فاعبدون ( إياي ) منصوب بفعل مضمر ; أي فاعبدوا ، إياي فاعبدون ، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني . والفاء في قوله : ( فإياي ) بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره ; لأن أرضي واسعة .
قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون تقدم في ( آل عمران ) . وإنما ذكره هاهنا تحقيرا لأمر الدنيا ومخاوفها ; كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا ، ; أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا . فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل . ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى ; وذكر الجزاء الذي ينالونه . ثم نعتهم بقوله : فحقر الله شأن الدنيا الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وقرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة وخلف : ( يا عبادي ) بإسكان الياء وفتحها الباقون . ( إن أرضي ) فتحها والكسائي ابن عامر وسكنها الباقون . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم عليهما السلام .
[ ص: 331 ] ثم إلينا ترجعون وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم : ( يرجعون ) بالياء ; لقوله : كل نفس ذائقة الموت وقرأ الباقون بالتاء ; لقوله : يا عبادي الذين آمنوا وأنشد بعضهم :
الموت في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها
وإن توشحت من أثوابها الحسنا أين الأحبة والجيران ما فعلوا
أين الذين همو كانوا لها سكنا سقاهم الموت كأسا غير صافية
صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا
قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة : ( لنثوينهم ) بالثاء مكان الباء من الثوي وهو الإقامة ; أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها . وقرأ والكسائي رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي : ( ليبوئنهم ) بالياء مكان النون ، الباقون ( لنبوئنهم ) أي لننزلنهم ( غرفا ) جمع غرفة وهي العلية المشرفة . وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . وخرج إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم . قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب ( التذكرة ) والحمد لله . إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها . فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام
قوله تعالى : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم أسند الواحدي عن قال : حدثنا يزيد بن هارون حجاج بن المنهال عن الزهري - وهو عبد الرحمن بن عطاء - عن عطاء عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من الثمر ويأكل فقال : يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟ فقلت : لا أشتهيه يا رسول الله . فقال : لكني أشتهيه وهذه صبيحة رابعة لم أذق طعاما ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك [ ص: 332 ] كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين ؟ قال : والله ما برحنا حتى نزلت : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم .
قلت : وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم ، اتفق عليه البخاري ومسلم . وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين . وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون : اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة . قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا . فنزلت : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم أي ليس معها رزقها مدخرا وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة وهذا أشبه من القول الأول وتقدم الكلام في ( كأين ) و أن هذه ( أي ) دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم ، والتقدير عند الخليل كالعدد أي كشيء كثير من العدد . ( من دابة ) قال وسيبويه مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا . الحسن : تأكل لوقتها ولا تدخر لغد . وقيل : لا تحمل رزقها أي لا تقدر على رزقها ( الله يرزقها ) أينما توجهت وإياكم . وقيل : الحمل بمعنى الحمالة . وحكى النقاش : أن المراد النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ولا يدخر .
قلت : وليس بشيء ; لإطلاق لفظ الدابة وليس مستعملا في العرف إطلاقها على الآدمي فكيف على النبي صلى الله عليه وسلم . وقد مضى هذا في ( النمل ) عند قوله : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم قال ابن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر . وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في محضنه . ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها الله يرزقها وإياكم يسوي بين [ ص: 333 ] الحريص والمتوكل في رزقه وبين الراغب والقانع وبين الحيول والعاجز حتى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه وهو السميع لدعائكم وقولكم : لا نجد ما ننفق لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا بالمدينة العليم بما في قلوبكم .