فيه ست وثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : أحل لكم لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام [ ص: 293 ] قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء ابن أبي ليلى عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها ، فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا نزلت عليه هذه الآية ، وفيها : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، وروى عن البخاري البراء قال : محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وفي كان أصحاب أيضا عن البخاري البراء قال : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم ، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب ، وقال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه ، وذكر الطبري : عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع مثله ، فغدا كعب بن مالك عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره أن النحاس ومكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية .
[ ص: 294 ] الثانية : قوله تعالى : ليلة الصيام الرفث ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت . و : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله الرفث ابن عباس . وقال والسدي الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله الأزهري أيضا ، وقال ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع ، والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعر
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
وقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده : الرفث إلى نسائكم ، وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : وقد أفضى بعضكم إلى بعض . ومن هذا المعنى : وإذا خلوا إلى شياطينهم كما تقدم ، وقوله : يوم يحمى عليها أي يوقد ; لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ; لأنك تقول : خالفت زيدا ، ومثله قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما حمل على رءوف في نحو بالمؤمنين رءوف رحيم ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية ، ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي :
حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : حملته أمه كرها ووضعته كرها ولكنه قال : حملت به ; لأنه في معنى حبلت به .
[ ص: 295 ] الثالثة : هن لباس لكم ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . قوله تعالى : وأنتم لباس لهن أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ، وقال النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضا :
لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس ، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر ، وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس ، وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أبو عبيد : أي نسائي ، وقيل نفسي ، وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .
الرابعة : قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله : فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر : التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني خفف عنكم ، وقوله عقيب القتل الخطأ : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفا ; لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة [ ص: 296 ] والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : يعني تسهيله وتوسعته ، فمعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فتاب عليكم بعد ما وقع ، أي خفف عنكم وعفا أي سهل . وتختانون من الخيانة ، كما تقدم . قال : وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه ابن العربي عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .
قوله تعالى : فالآن باشروهن كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال : ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع ابن العربي عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ; لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .
الخامسة : قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : فالآن باشروهن ، وقال ابن عباس : ما كتب الله لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به ، وروي عن ابن عباس أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله ومعاذ بن جبل قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . قيل : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري والحسن ابن قرة ( واتبعوا ) من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .
السادسة : وكلوا واشربوا هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .
السابعة : قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روى الحد الذي بتبينه يجب الإمساك مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، وحكاه لا يغرنكم من سحوركم أذان حماد بيديه قال : يعني معترضا ، وفي حديث ابن مسعود : ، وروى إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم [ ص: 297 ] نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه عن الدارقطني عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال والأعمش سليمان مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت ، وروى عن النسائي عاصم عن زر قال لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وروى قلنا عن الدارقطني طلق بن علي أن نبي الله قال : . قال كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر : الدارقطني قيس بن طلق ليس بالقوي ، وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : الفيصل في ذلك ، وقوله إنما هو سواد الليل وبياض النهار أياما معدودات وروى عن الدارقطني عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . تفرد به من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . رفعه من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة مرفوعا من [ ص: 298 ] قولها ، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول أبي حنيفة ، وهي :
الثامنة : وذلك أن ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار . أخرجه وعن ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر : البخاري
الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بيناه . قال أبو داود الإيادي :
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر :
قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره
[ ص: 299 ] وقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب :
ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :
إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين
ويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر [ هو حميد الأرقط ] :
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر
التاسعة : ثم أتموا الصيام إلى الليل جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه ، فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال قوله تعالى : مالك : من فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ، أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع ومسلم في صحيحه عن أن أبي هريرة الحديث ، وبهذا قال رجلا أفطر في رمضان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا الشعبي ، وقال وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث الشافعي أيضا قال : أبي هريرة ، الحديث ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ; لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيود فلزم مطلقا ، وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن ، ويلزم والزهري القول به فإنه يقول : ترك [ ص: 300 ] الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم ، وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر . الشافعي
العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على ، فقال المرأة يطؤها زوجها في رمضان مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج ، وقال : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن الشافعي أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير ، وهو قول سحنون بن سعيد المالكي ، وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .
الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن ، فقال جامع ناسيا لصومه أو أكل الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، وقال مالك والليث : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن والأوزاعي عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ، وإليه ذهب ابن الماجشون عبد الملك ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال أحمد بن حنبل ابن المنذر : لا شيء عليه .
الثانية عشرة : قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي : وأبو ثور أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا ابن المنذر : وبه نقول ، وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ; لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر ، وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .
قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن كل فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث من أكل أو شرب ناسيا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة - في رواية - إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه . أخرجه وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه ، وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال الدارقطني أبو بكر الأثرم : [ ص: 301 ] سمعت أبا عبد الله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء لحديث . ثم قال أبي هريرة أبو عبد الله مالك : وزعموا أن يقول عليه القضاء وضحك ، وقال مالكا ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : يتم صومه وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .
قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا ، وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع به خرم ، لقوله تعالى : إذا جامع عامدا ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته ، وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء ، فأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قضاء عليه . من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه
قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبو هريرة أخرجه من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة وقال : تفرد به الدارقطني ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .
الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة الأكل والشرب والجماع ; لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ; ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى صوم من قبل وباشر مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى عن البخاري عائشة قالت : ، وممن كره كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر [ ص: 302 ] وهو صائم القبلة للصائم عبد الله بن مسعود ، وقد روي عن وعروة بن الزبير ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن ، واختاره والشافعي ابن المنذر وقال : لا ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو لم يكن عليه شيء عندهم ، وقال قبل فأمذى أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا ، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء ، وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على ألا كفارة عليه ، وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب : لا كفارة عليه حتى يكرر ، وقال وسحنون ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا : قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول مالك في المدونة ، وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تئول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر ألا كفارة عليه إلا أن يتابع ، والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإن كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ; لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له ، وإن كانت عادته السلامة فقدر أن يكون منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة ; لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .
[ ص: 303 ] قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فقد قال الشيخ الباجي أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال : وهو الصحيح عندي ; لأنه إذا قصد به الاستمتاع كان كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، والله أعلم " ، وقال الباجي جابر بن زيد والثوري والشافعي وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله وأبو ثور ابن المنذر . قال : وروى في المدونة الباجي ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .
الرابعة عشرة : والجمهور على صحة ، وقال صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح . القاضي أبو بكر بن العربي
قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره ، وفي كتاب أبي هريرة أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ، النسائي محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح ، وعن أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن أبي هريرة عطاء وطاوس ، وروي عن وعروة بن الزبير الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .
قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة . وعن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم عائشة رضي الله عنها قالت : ، أخرجهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في [ ص: 304 ] رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم البخاري ومسلم ، وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : فالآن باشروهن الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر ، وقد قال : ولو الشافعي أنه لا قضاء عليه ، وقال كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .
الخامسة عشرة : واختلفوا في ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح مالك وابن القاسم ، وقال عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره الاحتلام لا ينقض الصوم أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك ، وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال ، وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض ، وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي ، وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .
السادسة عشرة : ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها . وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده
السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . من حديث أفطر الحاجم والمحجوم ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد [ ص: 305 ] حديث شداد بن أوس ، وصحح حديث علي بن المديني رافع بن خديج ، وقال مالك والشافعي : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير ، وفي صحيح والثوري مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف ، وقال الحجامة للصائم أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ) لأن في حديث احتجم صائما محرما شداد بن أوس وغيره واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدركه بعد ذلك رمضان ; لأنه توفي في ربيع الأول . أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم
الثامنة عشرة : ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . وإلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار . قوله تعالى :
التاسعة عشرة : دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء ، وفي كتاب من تمام الصوم استصحاب النية ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية ، وقيل : عليه القضاء والكفارة ، وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .
قلت : هذا حسن .
الموفية عشرين : قوله تعالى : إلى الليل إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال : وقد سئل ابن العربي عن الإمام أبو إسحاق الشيرازي ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه [ ص: 306 ] لا يفطر على حار ولا بارد ، وسئل عنها إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد ، وما أجاب به الإمام أبو نصر بن الصباغ الإمام أبو إسحاق أولى ; لأنه مقتضى الكتاب والسنة .
الحادية والعشرون : فإن فعليه القضاء في قول أكثر العلماء ، وفي ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس البخاري أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل عن لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : فلا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء ، وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول الحسن البصري إسحاق وأهل الظاهر ، وقول الله تعالى : إلى الليل يرد هذا القول ، والله أعلم .
الثانية والعشرون : كفر مع القضاء ، قاله فإن أفطر وهو شاك في غروبها مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها ، ومن لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله ، ومن أهل العلم شك عنده في طلوع الفجر بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر ، وقال إلكيا الطبري : ( وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد ، ولا خلاف في وجوب القضاء وجابر بن زيد ، والذي نحن فيه مثله ، وكذلك إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ) . الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : إلى الليل فيه ما يقتضي ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته النهي عن الوصال عائشة ، وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه ، وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها ، وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى الله عليه وسلم : . خرجه إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر [ ص: 307 ] الصائم مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه لو تأخر الهلال لزدتكم مسلم عن ، وفي حديث أبي هريرة أنس : . خرجه لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم مسلم أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم : تأكيدا في المنع لهم منه ، أخرجه إياكم والوصال إياكم والوصال ، وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء ، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : البخاري . خرجه إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر مسلم وأبو داود . وفي عن البخاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي سعيد الخدري . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو غاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني أحمد وإسحاق صاحب وابن وهب مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت ، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : ، فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات والله أعلم . لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي [ ص: 308 ] ويسقيني
قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه ، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى ، وظاهر هذه الحقيقة : وأنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها ، وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها ، ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا ، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم ، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : اغتاب في صومه أو شهد بزور ، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى ، وبالله التوفيق . من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه
الرابعة والعشرون : ويستحب ، لما رواه للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء أبو داود عن أنس قال : ، وأخرجه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء وقال فيه : إسناد صحيح ، وروى الدارقطني عن الدارقطني ابن عباس قال : ، وعن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ابن عمر قال . خرجه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله أبو داود أيضا . وقال : تفرد به الدارقطني الحسين بن واقد إسناده [ ص: 309 ] حسن ، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند فقال : سعد بن معاذ ، وروي أيضا عن أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من غير أن ينقص من أجورهم شيئا من فطر صائما كان له مثل أجرهم وروي أيضا عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمرو بن العاص للصائم عند فطره لدعوة ما ترد . قال إن : سمعت ابن أبي مليكة عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : . للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه
الخامسة والعشرون : ، لما رواه ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن وابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي أيوب الأنصاري هذا حديث حسن صحيح من حديث من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث البخاري عن أبي أسماء الرحبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ، واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها النسائي مالك في موطئه [ ص: 310 ] خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى إنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان ، وروى مطرف عن نافع أنه كان يصومها في خاصة نفسه ، واستحب صيامها ، وكرهه الشافعي أبو يوسف .
السادسة والعشرون : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد بين جل وتعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من قوله تعالى : أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها الحسن البصري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان ، فأما والزهري فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ; لأن المباشرة من غير جماع عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر . قال أبو عمر : وأجمعوا على أن ، واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال المعتكف لا يباشر ولا يقبل مالك : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قاله والشافعي المزني ، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : وأنتم عاكفون جملة في موضع الحال ، في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز : والاعتكاف
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال الشاعر :
وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم ، وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .
الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن ، لقول الله تعالى : الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد في المساجد واختلفوا في ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت [ ص: 311 ] على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي المراد بالمساجد كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إيلياء ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها ، وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن وسعيد بن المسيب علي بن أبي طالب ، وهو قول وابن مسعود عروة والحكم وحماد والزهري ، وهو أحد قولي وأبي جعفر محمد بن علي مالك ، وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأصحابهما ، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي وأبي حنيفة مالك وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر ، وروى عن الدارقطني الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : . قال كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح : الدارقطني والضحاك لم يسمع من حذيفة .
التاسعة والعشرون : عند وأقل الاعتكاف مالك يوم وليلة ، فإن وأبي حنيفة لزمه اعتكاف ليلة ويوم ، وكذلك إن قال : لله علي اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة ، وقال نذر اعتكاف يوم سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون . قال : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره ، وقال بعض أصحاب الشافعي أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة ، وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن في أحد قوليه ، وهو قول أحمد بن حنبل داود بن علي ، واختاره وابن علية ابن المنذر ، واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره ، ولو وابن العربي فسد صومه عند نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض مالك وأصحابه ، ومعلوم أن ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن ، وقال ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم ، وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، وفي الموطأ عن وعائشة القاسم بن محمد : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول الله تعالى في كتابه : ونافع مولى عبد الله بن عمر وكلوا واشربوا إلى قوله : في المساجد وقالا : فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام . قال يحيى قال مالك : [ ص: 312 ] وعلى ذلك الأمر عندنا ، واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عن عمرو بن دينار ابن عمر عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم . أخرجه أن أبو داود ، وقال : تفرد به الدارقطني ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . قال لا اعتكاف إلا بصيام : تفرد به الدارقطني سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .
الموفية ثلاثين : إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه عائشة قالت : تريد الغائط والبول ، ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ، ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي ، وقال وأبي حنيفة سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه ، وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة ، وقال الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه ، واختلف فيه عن الشافعي أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس ، وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له .
[ ص: 313 ] الحادية والثلاثون : واختلفوا في ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ; لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن خروجه للجمعة الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر ، ومشهور مذهب مالك أن من ، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه ، وقال أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع عبد الملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .
قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد نعم ، وأجمع العلماء على أن وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان . الاعتكاف ليس بواجب
الثانية والثلاثون : ; لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ابن خويز منداد عن مالك .
الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : الحديث ، واختلف العلماء في كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . ، فقال وقت دخول المعتكف في اعتكافه الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري في أحد قوليه ، وبه قال والليث بن سعد ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس ، وقال مالك والشافعي وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال وأبو حنيفة مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر ، وبه قال أبو حنيفة ; لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم ، وقال وابن الماجشون : إذا قال لله علي يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر ، وقال الشافعي الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء ، وروي مثل ذلك عن أبي يوسف وبه قال ، وأن الليلة إنما تدخل [ ص: 314 ] في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن القاضي عبد الوهاب وليس الليل بزمن للصوم ، فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل . الاعتكاف لا يكون إلا بصوم
قلت : وحديث عائشة يرد هذا القول وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .
الرابعة والثلاثون : مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال استحب أحمد ، وقال الشافعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه والأوزاعي سحنون عن ابن القاسم ; لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه ، وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر ، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر ، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن في صحة الاعتكاف ، فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية . مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا
الخامسة والثلاثون : تلك حدود الله أي هذه الأحكام حدود الله فلا تخالفوها ، " فتلك " إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز . والحد : المنع ، ومنه سمي الحديد حديدا ; لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن ، وسمي البواب والسجان حدادا ; لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها ، ويمنع الخارج من الدخول فيها ، وسميت حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، ومنها سميت الحدود في المعاصي ; لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها ، ومنه سميت الحاد في العدة ; لأنها تمتنع من الزينة . قوله تعالى :
السادسة والثلاثون : كذلك يبين الله آياته للناس أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق . قوله تعالى :
ولعلهم ترج في حقهم ، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى ، بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء .