فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : الذين ينفقون هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة ، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه . السراء اليسر والضراء العسر ; قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل . وقال عبيد بن عمير والضحاك : السراء والضراء الرخاء والشدة . ويقال في حال الصحة والمرض . وقيل : في السراء في الحياة ، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت . وقيل : في السراء في العرس والولائم ، وفي الضراء في النوائب والمآتم . وقيل : في السراء النفقة التي تسركم ; مثل النفقة على الأولاد والقرابات ، والضراء على الأعداء . ويقال : في السراء ما يضيف به الفتى ويهدى إليه . والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم . قلت : والآية تعم . ثم قال تعالى : والكاظمين الغيظ وهي المسألة
الثانية : وكظم الغيظ رده في الجوف ; يقال : كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه ، وكظمت السقاء أي ملأته وسددت عليه ، والكظامة ما يسد به مجرى الماء ; ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزق والقربة . وكظم البعير جرته إذا ردها في جوفه ; وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه : كظم ; حكاه الزجاج . يقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ; ومنه قول الراعي :
[ ص: 196 ]
فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأبارق إذا رعين حقيلا
الحقيل : موضع . والحقيل : نبت . وقد قيل : إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر ; قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للإبل فهي تفزع منه :قد تكظم البزل منه حين تبصره حتى تقطع في أجوافها الجرر
الثالثة : قوله تعالى : والعافين عن الناس العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير ; حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه . وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه . واختلف في معنى عن الناس ; فقال أبو العالية والكلبي والزجاج : والعافين عن الناس يريد عن المماليك . قال ابن عطية : وهذا حسن على جهة المثال ; إذ هم الخدمة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ; فلذلك مثل هذا المفسر به . وروي عن أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة ، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه ، فأراد ميمون بن مهران ميمون أن يضربها ، فقالت الجارية : يا مولاي ، استعمل قوله تعالى : والكاظمين الغيظ قال لها : قد فعلت . فقالت : اعمل بما بعده والعافين عن الناس . فقال : قد عفوت عنك . فقالت الجارية : والله يحب المحسنين . قال ميمون : قد أحسنت إليك ، فأنت حرة لوجه الله تعالى . وروي عن مثله . وقال الأحنف بن قيس : زيد بن أسلم والعافين عن الناس عن ظلمهم وإساءتهم . وهذا عام ، وهو ظاهر الآية . وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عند ذلك : إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت . فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال : وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله : والعافين عن الناس ، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك . ووردت في أحاديث ; وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس ; فقال - صلى الله عليه وسلم - : كظم الغيظ [ ص: 197 ] والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب . وقال عليه السلام ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . وروى ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أشد من كل شيء ؟ قال : ( غضب الله ) . قال فما ينجي من غضب الله ؟ قال : ( لا تغضب ) . قال العرجي :
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تبصر ساعة يرضى بها عنك الإله وترفع
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
الرابعة : قوله تعالى والله يحب المحسنين أي يثيبهم على إحسانهم . قال سري السقطي : الإحسان أن تحسن وقت الإمكان ، فليس كل وقت يمكنك الإحسان قال الشاعر :
بادر بخير إذا ما كنت مقتدرا فليس في كل وقت أنت مقتدر
ليس في كل ساعة وأوان تتهيأ صنائع الإحسان
وإذا أمكنت فبادر إليها حذرا من تعذر الإمكان