قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، فما شأنكم ، أيها المؤمنون ، في أهل النفاق فئتين مختلفتين " والله أركسهم بما كسبوا " ، يعني بذلك : والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك ، في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم .
و" الإركاس " ، الرد ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في حميم النار ، إنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
يقال منه : "أركسهم" و "ركسهم" .
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي : ( والله ركسهم ) ، بغير "ألف" . [ ص: 8 ]
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية .
فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه : ( لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) [ سورة آل عمران : 167 ] .
ذكر من قال ذلك :
10049 - حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت قال : سمعت يحدث ، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري : زيد بن ثابت أحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : "نقتلهم" ، وفرقة تقول : "لا" . فنزلت هذه الآية : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا " الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : إنها طيبة ، وإنها تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الفضة . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى
10050 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه . زيد بن ثابت
10051 - حدثني زريق بن السخت قال : حدثنا شبابة ، عن عدي بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن قال : ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : "نقتلهم" ، وقال فريق : "لا نقتلهم" . فأنزل [ ص: 9 ] الله تبارك وتعالى : " زيد بن ثابت فما لكم في المنافقين فئتين " إلى آخر الآية
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك .
ذكر من قال ذلك :
10052 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا [ ص: 10 ] النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : "هم منافقون" ، وقائل يقول : "هم مؤمنون" . فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم ، فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم علي بن عويمر ، أو : هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .
10053 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله بنحوه غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم ، فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين .
ذكر من قال ذلك :
10054 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد "عليه السلام" فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من [ ص: 11 ] المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله _ أو كما قالوا _ أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم ، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء ، فنزلت : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله " ، الآية .
10055 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين " الآية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم : لا يحل لكم! فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " حتى بلغ" ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " .
10056 - حدثنا القاسم قال : حدثنا أبو سفيان ، عن قال : بلغني أن ناسا من معمر بن راشد أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا ، فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال! وقالت طائفة : دماؤهم حرام! فأنزل الله : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " .
10057 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين ، هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا ، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، [ ص: 12 ] وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة ، أرادوا الخروج عنها نفاقا .
ذكر من قال ذلك :
10058 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا ، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء لله منافقون! وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا غمتهم المدينة فاتخموها ، [ ص: 13 ] فخرجوا إلى الظهر يتنزهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين " والله أركسهم بما كسبوا " .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك .
ذكر من قال ذلك :
10059 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، حتى بلغ" فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، قال : هذا في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم .
10060 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : إن هذه الآية حين أنزلت : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، فقرأ حتى بلغ" فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، فقال : فإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته ! يريد سعد بن معاذ عبد الله بن أبي ، ابن سلول .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . [ ص: 14 ]
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين : أحدهما : أنهم قوم كانوا من أهل مكة ، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم .
والآخر : أنهم قوم كانوا من أهل المدينة .
وفي قول الله تعالى ذكره : " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا " ، أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة . لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر . فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : "فئتين" .
فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : "ما لك قائما" ، يعني : ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين .
وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل "ما لك" ، قال : ولا تبال أكان المنصوب في "ما لك" معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن تقول : "ما لك السائر معنا" لأنه كالفعل الذي ينصب ب "كان" و "أظن" وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه "فعل" و "يفعل" من المنصوب ، جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما تنصب "كان" و "أظن" لأنهن نواقص في المعنى ، وإن ظننت أنهن تامات . [ ص: 15 ]
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : "ما لك قائما" ، "القيام" ، فهو في مذهب "كان" وأخواتها ، و "أظن" وصواحباتها .