قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : كيف قيل : " ولا تكونوا أول كافر به " [ ص: 562 ] والخطاب فيه لجميع ، وقوله : " كافر " واحد ؟ وهل نجيز - إن كان ذلك جائزا - أن يقول قائل : " ولا تكونوا أول رجل قام " ؟
قيل له : إنما يجوز توحيد ما أضيف له " أفعل " وهو خبر لجميع إذا كان اسما مشتقا من "فعل ويفعل " لأنه يؤدي عن المراد معه المحذوف من الكلام وهو " من " ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه " من " من الجمع والتأنيث ، وهو في لفظ واحد . ألا ترى أنك تقول : ولا تكونوا أول من يكفر به . " فمن " بمعنى جميع ، وهو غير متصرف تصرف الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث . فإذا أقيم الاسم المشتق من " فعل ويفعل " مقامه ، جرى وهو موحد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه " من " من معنى الجمع والتأنيث ، كقولك : " الجيش منهزم " " والجند مقبل " فتوحد الفعل لتوحيد لفظ الجيش والجند . وغير جائز أن يقال : " الجيش رجل ، والجند غلام " حتى تقول : " الجند غلمان والجيش رجال " لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من " فعل ويفعل " لا يؤدي عن معنى الجماعة منهم ، ومن ذلك قول الشاعر :
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
فوحد مرة على ما وصفت من نية " من " وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من " فعل ويفعل " مقامه ، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء [ ص: 563 ] المخبر عنهم ، ولو وحد حيث جمع ، أو جمع حيث وحد ، كان صوابا جائزا .
وأما تأويل ذلك فإنه يعني به : يا معشر أحبار أهل الكتاب ، صدقوا بما أنزلت على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدق كتابكم ، والذي عندكم من التوراة والإنجيل ، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيي المبعوث بالحق ، ولا تكونوا أول أمتكم كذب به وجحد أنه من عندي ، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم .
وكفرهم به : جحودهم أنه من عند الله . والهاء التي في " به " من ذكر " ما " التي مع قوله : " وآمنوا بما أنزلت " كما :
817 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال قال في قوله : " ابن جريج ولا تكونوا أول كافر به " بالقرآن .
قال أبو جعفر : وروي عن أبي العالية في ذلك ما :
818 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : " ولا تكونوا أول كافر به " يقول : لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . .
وقال بعضهم : " ولا تكونوا أول كافر به " يعني : بكتابكم . ويتأول أن في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبا منهم بكتابهم ، لأن في كتابهم الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذان القولان من ظاهر ما تدل عليه التلاوة بعيدان . وذلك أن الله جل ثناؤه [ ص: 564 ] أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال جل ذكره : " وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم " ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد ، لأن محمدا صلوات الله عليه رسول مرسل ، لا تنزيل منزل ، والمنزل هو الكتاب . ثم نهاهم أن يكونوا أول من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكر ظاهر ، فيعاد عليه بذكره مكنيا في قوله : " ولا تكونوا أول كافر به " وإن كان غير محال في الكلام أن يذكر مكني اسم لم يجر له ذكر ظاهر في الكلام .
وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في " به " على " ما " التي في قوله : " لما معكم " لأن ذلك ، وإن كان محتملا ظاهر الكلام ، فإنه بعيد مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل ، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن . فكذلك الواجب أن يكون المنهي عن الكفر به في آخرها هو القرآن . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غير المنهي عن الكفر به ، في كلام واحد وآية واحدة ، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام . هذا مع بعد معناه في التأويل . .
819 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد [ ص: 565 ] بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به " وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم .