القول في تأويل قوله عز ذكره ( قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ( 31 ) )
قال أبو جعفر : وهذا أيضا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو ، عن الحسن ، لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية ، لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه ، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه ، ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عباده الموتى ، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول . فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جيفته ، فأحب الله تعريفه السنة في موتى خلقه ، فقيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه . [ ص: 225 ]
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول ، بعد قتله إياه .
11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني ، عن أبيه ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة ، حتى بعث الله جل وعز الغرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن أخاه .
11753 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، بعث الله جل وعز غرابا حيا ، إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " الآية .
11754 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن فيما ذكر ، عن السدي أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما مات الغلام تركه بالعراء ، ولا يعلم كيف يدفن؟ فبعث الله جل وعز غرابين أخوين ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه . فلما رآه قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " ، فهو قول الله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " .
11755 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "يبحث" ، قال : بعث الله غرابا حتى [ ص: 226 ] حفر لآخر إلى جنبه ميت ، وابن آدم القاتل ينظر إليه ، ثم بحث عليه حتى غيبه .
11756 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "غرابا يبحث في الأرض" ، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه ، فغيبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه ، حيث يبحث عليه حتى غيبه ، فقال : "يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" ، الآية .
11757 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، قال : بعث الله غرابا إلى غراب ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فجعل يحثي عليه التراب ، فقال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11758 - حدثني المثنى قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فحثى عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية .
11759 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عن عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عطية قال : لما قتله ندم ، فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر : متى يرمي به فتأكله ؟ .
11760 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 227 ] قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه " ، أنه بعثه الله عز ذكره يبحث في الأرض ، ذكر لنا أنهما غرابان اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، وذلك يعني ابن آدم ينظر ، وجعل الحي يحثي على الميت التراب ، فعند ذلك قال ما قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " الآية ، إلى قوله : "من النادمين" .
11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : أما قوله : " فبعث الله غرابا " ، قال : قتل غراب غرابا ، فجعل يحثو عليه ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11762 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، قال : وارى الغراب الغراب . قال : كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به ، يحمله ويضعه إلى الأرض ، حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11763 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قول الله : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، قال : بعث الله عز وجل غرابا ، فجعل يبحث على غراب ميت التراب . قال : فقال عند ذلك : " أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " ، بعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية . [ ص: 228 ]
11765 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول ، قال : لما قتله سقط في يديه ، ولم يدر كيف يواريه . وذلك أنه كان ، فيما يزعمون أول قتيل من بني آدم وأول ميت [ قال ] : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " الآية [ إلى قوله : " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " ، قال ] : ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه : يا قابيل ، أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيبا! فقال الله جل وعز له : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك . فإذا أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض . قال قابيل : عظمت خطيئتي من أن تغفرها! قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قدامك ، وأكون فزعا تائها في الأرض ، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز : ليس ذلك كذلك ، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحد سبعة ، ولكن من قتل قابيل يجزى سبعة ، وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده ، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة . [ ص: 229 ]
11766 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : حدثنا الأعمش ، عن قال : لما قتل ابن خيثمة آدم أخاه نشفت الأرض دمه ، فلعنت فلم تنشف الأرض دما بعد .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : فأثار الله للقاتل - إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول - " غرابا يبحث في الأرض " ، يقول : يحفر في الأرض ، فيثير ترابها "ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، يقول : ليريه كيف يواري جيفة أخيه .
وقد يحتمل أن يكون عني ب " السوأة " ، الفرج ، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة ، بذلك جاء تأويل أهل التأويل .
قال أبو جعفر : وفي ذلك محذوف ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه ، وهو : " فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميت فواراه فيها " ، فقال القاتل أخاه حينئذ : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الذي وارى الغراب الآخر الميت " فأواري سوأة أخي " ، فواراه حينئذ " فأصبح من النادمين " ، على ما فرط منه من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه .
وكل ما ذكر الله عز وجل في هذه الآيات مثل ضربه الله عز ذكره لبني آدم ، وحرض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفو والصفح عن اليهود - الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم - من بني النضير ، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي [ ص: 230 ] وعرفهم جل وعز رداءة سجية أوائلهم ، وسوء استقامتهم على منهج الحق ، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم . وضرب مثلهم في غدرهم ، ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم ، بابني آدم المقربين قرابينهما ، اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات . ثم ذلك مثل لهم على التأسي بالفاضل منهما دون الطالح . وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . عمرو بن أمية الضمري ،
11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : قلت لبكر بن عبد الله ، أما بلغك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " آدم مثلا فخذوا خيرهما ودعوا شرهما " ؟ قال : بلى . إن الله جل وعز ضرب لكم ابني
11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الأمة ، فخذوا بالخير منهما .
11769 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر .