القول في تأويل قوله ( تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( 110 ) )
قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - ، مخبرا عن قيله ، لعيسى : " اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " في حال تكليمك الناس في المهد وكهلا .
وإنما هذا خبر من الله - تعالى ذكره - : أنه أيده بروح القدس صغيرا في المهد ، [ ص: 215 ] وكهلا كبيرا فرد " الكهل " على قوله " في المهد " لأن معنى ذلك : صغيرا ، كما قال الله - تعالى ذكره - : دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، [ سورة يونس : 12 ] .
وقوله : " " يقول : واذكر أيضا نعمتي عليك " إذ علمتك الكتاب " وهو الخط " والحكمة " وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك ، وهو الإنجيل " وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " يقول : كصورة الطير . . . . . . " بإذني " يعني بقوله " تخلق " تعمل وتصلح - " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير من الطين كهيئة الطير بإذني " يقول : بعوني على ذلك ، وعلم مني به " فتنفخ فيها " يقول : فتنفخ في الهيئة ، فتكون الهيئة والصورة طيرا بإذني " وتبرئ الأكمه " يقول : وتشفي " الأكمه " وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئا ، المطموس البصر " والأبرص بإذني " .
وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 216 ]
وقوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات " يقول : واذكر أيضا نعمتي عليك بكفي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك ، وقد هموا بقتلك " إذ جئتهم بالبينات " يقول : إذ جئتهم بالأدلة والأعلام المعجزة على نبوتك ، وحقيقة ما أرسلتك به إليهم . " فقال الذين كفروا منهم " يقول - تعالى ذكره - : فقال الذين جحدوا نبوتك وكذبوك من بني إسرائيل " إن هذا إلا سحر مبين " .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة : " إن هذا إلا سحر مبين " يعني : يبين عما أتى به لمن رآه ونظر إليه ، أنه سحر لا حقيقة له .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة : ( إن هذا إلا ساحر مبين ) ، بمعنى : " ما هذا " يعني به عيسى ، " إلا ساحر مبين " يقول : يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه ، أنه ساحر لا نبي صادق .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، متفقتان غير مختلفتين . وذلك أن كل من كان موصوفا بفعل " السحر " فهو موصوف بأنه " ساحر " . ومن كان موصوفا بأنه " ساحر " فإنه موصوف بفعل [ ص: 217 ] " السحر " . فالفعل دال على فاعله ، والصفة تدل على موصوفها ، والموصوف يدل على صفته ، والفاعل يدل على فعله . فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته .