قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " " [ ص: 234 ] وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " .
وقيل : إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
13028 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " قال : لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه ، قالت النصارى ما قالت ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، فسأله عن قوله فقال : " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " إلى قوله : " وأنت على كل شيء شهيد " .
وقال آخرون : بل هذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة .
ذكر من قال ذلك :
13029 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : " ابن جريج وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، قال : والناس يسمعون ، فراجعه بما قد رأيت ، وأقر له بالعبودية على نفسه ، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول : أنه إنما كان يقول باطلا .
13030 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ميسرة قال : قال الله : يا عيسى ، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فأرعدت مفاصله ، وخشي أن يكون قد قال : فقال : سبحانك ، إن كنت قلته فقد علمته الآية .
13031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، [ ص: 235 ] عن قتادة في قوله : " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " متى يكون ذلك؟ قال : يوم القيامة ، ألا ترى أنه يقول : " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " ؟
فعلى هذا التأويل الذي تأوله يجب أن يكون " وإذ " بمعنى : و " إذا " كما قال في موضع آخر : ابن جريج ، ولو ترى إذ فزعوا ، [ سورة سبأ : 51 ] ، بمعنى : يفزعون ، وكما قال أبو النجم :
ثم جزاه الله عنا إذ جزى جنات عدن في العلالي العلا
والمعنى : إذا جزى ، وكما قال الأسود :
فالآن ، إذ هازلتهن ، فإنما يقلن : ألا لم يذهب الشيخ مذهبا !!
بمعنى : إذا هازلتهن . [ ص: 236 ]
وكأن من قال في ذلك بقول هذا ، وجه تأويل الآية إلى : " ابن جريج فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " في الدنيا وأعذبه أيضا في الآخرة : " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " .
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك ، قول من قال بقول وهو أن الله - تعالى ذكره - قال ذلك السدي ، لعيسى حين رفعه إليه ، وأن الخبر خبر عما مضى ، لعلتين :
إحداهما : أن " إذ " إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضي من الفعل ، وإن كانت قد تدخلها أحيانا في موضع الخبر عما يحدث ، إذا عرف السامعون معناها . وذلك غير فاش ، ولا فصيح في كلامهم ، وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل ، أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر .
والأخرى : أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء ، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه ، فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبا لربه - تعالى ذكره - : إن تعذب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
فإن قال قائل : وما كان وجه سؤال الله عيسى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟
قيل : يحتمل ذلك وجهين من التأويل : [ ص: 237 ]
أحدهما : تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه ، كما يقول القائل لآخر : " أفعلت كذا وكذا " ؟ مما يعلم المقول له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له : " أفعلته " على وجه النهي عن فعله ، والتهديد له فيه .
والآخر : إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده ، وبدلوا دينهم بعده . فيكون بذلك جامعا إعلامه حالهم بعده ، وتحذيرا له قيله .
قال أبو جعفر : وأما تأويل الكلام ، فإنه : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين " أي : معبودين تعبدونهما من دون الله . قال عيسى : تنزيها لك يا رب وتعظيما أن أفعل ذلك أو أتكلم به " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " يقول : ليس لي أن أقول ذلك ، لأني عبد مخلوق ، وأمي أمة لك ، وكيف يكون للعبد والأمة ادعاء ربوبية؟ " إن كنت قلته فقد علمته " يقول : إنك لا يخفى عليك شيء ، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمرهم به .