القول في تأويل قوله ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( 1 ) )
قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - ، معجبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ، ومحتجا على الكافرين : إن الإله الذي يجب عليكم - أيها الناس - حمده ، هو الذي خلق السماوات والأرض ، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم ، وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم . فمن السماوات ينزل عليكم الغيث ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم . ومن الأرض ينبت الحب الذي به غذاؤكم ، والثمار التي فيها ملاذكم ، مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم ، [ ص: 252 ] أيها الناس " بربهم " الذي فعل ذلك وأحدثه " يعدلون " يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه ، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة ، وأوجزها من عظة ، لمن فكر فيها بعقل ، وتدبرها بفهم !
ولقد قيل : إنها فاتحة التوراة .
ذكر من قال ذلك :
13042 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا ، عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، عن أبي عمران الجوني عبد الله بن رباح ، عن كعب قال : فاتحة التوراة فاتحة " الأنعام " : " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " .
13043 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن زيد بن حباب جعفر بن سليمان ، عن ، عن أبي عمران الجوني عبد الله بن رباح ، عن كعب مثله وزاد فيه : وخاتمة التوراة خاتمة " هود " .
يقال من مساواة الشيء بالشيء : " عدلت هذا بهذا " إذا ساويته به ، " عدلا " . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه ، فإنك تقول : " عدلت فيه أعدل عدلا " . [ ص: 253 ]
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : " يعدلون " قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
13044 - حدثني ابن محمد عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يعدلون " قال : يشركون .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بذلك :
فقال بعضهم : عني به أهل الكتاب .
ذكر من قال ذلك :
13045 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى قال : جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية : " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال له : أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟ قال : بلى ! قال : وانصرف عنه الرجل ، فقال له رجل من القوم : يا ابن أبزى ، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا! إنه رجل من الخوارج ! فقال : ردوه علي . فلما جاءه قال : هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قال : لا! قال : إنها نزلت في أهل الكتاب ، اذهب ، ولا تضعها على غير حدها . [ ص: 254 ]
وقال آخرون : بل عني بها المشركون من عبدة الأوثان .
ذكر من قال ذلك :
13046 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة : " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : هؤلاء أهل صراحيه .
13047 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : هم المشركون .
13048 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : الآلهة التي عبدوها ، عدلوها بالله . قال : وليس لله عدل ولا ند ، وليس معه آلهة ، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون ، فعم بذلك جميع الكفار ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض . فجميعهم داخلون في ذلك : يهودهم ، ونصاراهم ، ومجوسهم ، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .