قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد ، الداعيك إلى عبادة الأوثان : " أمرنا لنسلم لرب العالمين ، الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، لا من لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر " .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " بالحق " .
فقال بعضهم : معنى ذلك ، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقا وصوابا ، لا باطلا وخطأ ، كما قال - تعالى ذكره - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ سورة ص : 27 ] . قالوا : وأدخلت فيه " الباء " و " الألف واللام " كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول : " فلان يقول بالحق " بمعنى : أنه يقول الحق . قالوا : ولا شيء في " قوله بالحق " غير إصابته الصواب فيه ، لا أن " الحق " معنى غير " القول " وإنما هو صفة للقول ، إذا كان بها القول ، كان القائل موصوفا بالقول بالحق ، وبقول الحق . قالوا : فكذلك خلق السماوات والأرض ، حكمة من حكم الله ، فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه ، لا أن ذلك حق سوى خلقهما خلقهما به . [ ص: 459 ]
وقال آخرون : معنى ذلك : خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما : ائتيا طوعا أو كرها ، [ سورة فصلت : 11 ] . قالوا : فالحق ، في هذا الموضع معني به : كلامه . واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله : " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق " " الحق " هو قوله وكلامه . قالوا : والله خلق الأشياء بكلامه وقيله ، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة . قالوا : فإذ كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غير مخلوق .
وأما قوله : " ويوم يقول كن فيكون " فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في " يوم يقول " وفي معنى ذلك .
فقال بعض نحويي البصرة : " اليوم " مضاف إلى " يقول كن فيكون " . قال : وهو نصب ، وليس له خبر ظاهر ، والله أعلم ، وهو على ما فسرت لك كأنه يعني بذلك أن نصبه على : واذكر يوم يقول كن فيكون . قال : وكذلك : " يوم ينفخ في الصور " قال : وقال بعضهم : يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة .
وقال بعضهم : " يقول كن فيكون " للصور خاصة فمعنى الكلام على تأويلهم : يوم يقول للصور كن فيكون ، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة [ ص: 460 ] فيكون " القول " حينئذ مرفوعا ب " الحق " و " الحق " ب " القول " وقوله : " يوم يقول كن فيكون " و " يوم ينفخ في الصور " صلة " الحق " .
وقال آخرون : بل قوله : " كن فيكون " معني به كل ما كان الله معيده في الآخرة بعد إفنائه ، ومنشئه بعد إعدامه فالكلام على مذهب هؤلاء ، متناه عند قوله : " كن فيكون " وقوله : " قوله الحق " خبر مبتدأ وتأويله : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما . ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال : قوله هذا ، الحق الذي لا شك فيه . وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور فيوم ينفخ في الصور " يكون على هذا التأويل من صلة " الملك " .
وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله : " يوم ينفخ في الصور " من صلة " الحق " .
وقال آخرون : بل معنى الكلام : ويوم يقول لما فني : " كن " فيكون قوله الحق ، فجعل " القول " مرفوعا بقوله " ويوم يقول كن فيكون " وجعل قوله : " كن فيكون " للقول محلا ، وقوله : " يوم ينفخ في الصور " من صلة " الحق " كأنه وجه تأويل ذلك إلى : ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور . وإن جعل على هذا التأويل " يوم ينفخ في الصور " بيانا عن اليوم الأول ، كان وجها صحيحا . ولو جعل قوله : " قوله الحق " مرفوعا بقوله : " يوم ينفخ في الصور " وقوله : " يوم ينفخ في الصور " محلا ، وقوله ويوم يقول كن فيكون " من صلته ، كان جائزا . [ ص: 461 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه ، معرفا من أشرك به من خلقه جهله في عبادة الأوثان والأصنام ، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه ، ولا دفع ضر عنها ومحتجا عليهم في إنكارهم البعث بعد الممات والثواب والعقاب ، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداء ، وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه ، فقال : " وهو الذي خلق " أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء " السماوات والأرض بالحق " حجة على خلقه ، ليعرفوا بها صانعها ، وليستدلوا بها على عظيم قدرته وسلطانه ، فيخلصوا له العبادة " ويوم يقول كن فيكون " يقول : ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك : " كن فيكون " كما شاء - تعالى ذكره - ، فتكون الأرض غير الأرض ويكون [ الكلام ] عند قوله : " كن فيكون " متناهيا .
وإذا كان كذلك معناه ، وجب أن يكون في الكلام محذوف يدل عليه الظاهر ، ويكون معنى الكلام : ويوم يقول كذلك : " كن فيكون " تبدل [ السماوات والأرض ] غير السماوات والأرض . ويدل على ذلك قوله : " وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق " ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال : " قوله الحق " بمعنى وعده هذا الذي وعد - تعالى ذكره - ، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات ، الحق الذي لا شك فيه " وله الملك يوم ينفخ في الصور " فيكون قوله : " يوم ينفخ في الصور " من صلة " الملك " ويكون معنى [ ص: 462 ] الكلام : ولله الملك يومئذ ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما .
وجائز أن يكون " القول " أعني : " قوله الحق " مرفوعا بقوله : " ويوم يقول كن فيكون " ويكون قوله : " كن فيكون " محلا للقول مرافعا ، فيكون تأويل الكلام : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، ويوم يبدلها غير السماوات والأرض ، فيقول لذلك : " كن فيكون " " قوله الحق " .
وأما قوله : " وله الملك يوم ينفخ في الصور " فإنه خص بالخبر عن ملكه يومئذ ، وإن كان الملك له خالصا في كل وقت في الدنيا والآخرة ، لأنه عنى - تعالى ذكره - أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدعي له ، وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة ، فأذعن جميعهم يومئذ له به ، وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل .
واختلف في معنى " الصور " في هذا الموضع .
فقال بعضهم : هو قرن ينفخ فيه نفختان : إحداهما لفناء من كان حيا على الأرض ، والثانية لنشر كل ميت . واعتلوا لقولهم ذلك بقوله : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [ سورة الزمر : 68 ] ، وبالخبر الذي روي . [ ص: 463 ] عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذ سئل عن الصور : هو قرن ينفخ فيه
وقال آخرون : " الصور " في هذا الموضع جمع " صورة " ينفخ فيها روحها فتحيا ، كقولهم : " سور " لسور المدينة ، وهو جمع " سورة " كما قال جرير :
سور المدينة والجبال الخشع
والعرب تقول : " نفخ في الصور " و " نفخ الصور " ومن قولهم : " نفخ الصور "
قول الشاعر :
لولا ابن جعدة لم تفتح قهندزكم ولا خراسان حتى ينفخ الصور
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما تظاهرت به الأخبار إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ، ينتظر متى يؤمر فينفخ " وأنه قال : " الصور قرن ينفخ فيه " . عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " إن
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : " يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة " يعني : أن عالم الغيب والشهادة ، هو الذي ينفخ في الصور .
13432 - حدثني به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " عالم الغيب والشهادة " [ ص: 464 ] يعني : أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور .
فكأن ابن عباس تأول في ذلك أن قوله : " عالم الغيب والشهادة " اسم الفاعل الذي لم يسم في قوله : " يوم ينفخ في الصور " وأن معنى الكلام : يوم ينفخ الله في الصور ، عالم الغيب والشهادة . كما تقول العرب : " أكل طعامك ، عبد الله " فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله . وذلك وإن كان وجها غير مدفوع ، فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله : " عالم الغيب والشهادة " مرفوعا على أنه نعت ل " الذي " في قوله : " وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق " .
وروي عنه أيضا أنه كان يقول : " الصور " في هذا الموضع ، النفخة الأولى .
13433 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة " يعني بالصور : النفخة الأولى ، ألم تسمع أنه يقول : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى يعني الثانية فإذا هم قيام ينظرون [ سورة الزمر : 68 ] .
ويعني بقوله : " عالم الغيب والشهادة " عالم ما تعاينون : أيها الناس ، فتشاهدونه ، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه " وهو الحكيم " في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم ، ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود ، ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب " [ ص: 465 ] الخبير " بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ ، حافظ ذلك عليهم ليجازيهم على كل ذلك . يقول - تعالى ذكره - : فاحذروا ، أيها العادلون بربكم ، عقابه ، فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون ، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون .