قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : فرح الذين خلفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) يقول : بجلوسهم في منازلهم ( خلاف رسول الله ) يقول : على الخلاف لرسول الله في جلوسه [ ص: 398 ] ومقعده . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله ، فخالفوا أمره وجلسوا في منازلهم .
وقوله : ( خلاف ) مصدر من قول القائل : " خالف فلان فلانا فهو يخالفه خلافا " فلذلك جاء مصدره على تقدير " فعال " كما يقال : " قاتله فهو يقاتله قتالا " ولو كان مصدرا من " خلفه " لكانت القراءة : " بمقعدهم خلف رسول الله " ؛ لأن مصدر : " خلفه " " خلف " لا " خلاف " ولكنه على ما بينت من أنه مصدر : " خالف " فقرئ : ( خلاف رسول الله ) وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار ، وهي الصواب عندنا .
وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى : " بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
عقب الربيع خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
[ ص: 399 ] وذلك قريب لمعنى ما قلنا ؛ لأنهم قعدوا بعده على الخلاف له .وقوله : ( وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) يقول - تعالى ذكره - : وكره هؤلاء المخلفون أن يغزوا الكفار بأموالهم وأنفسهم ( في سبيل الله ) يعني : في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه ميلا إلى الدعة والخفض ، وإيثارا للراحة على التعب والمشقة ، وشحا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله .
( وقالوا لا تنفروا في الحر ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استنفرهم إلى هذه الغزوة - وهي غزوة تبوك - في حر شديد ، فقال المنافقون بعضهم لبعض : " لا تنفروا في الحر " فقال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( قل ) لهم يا محمد ( نار جهنم ) التي أعدها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله ( أشد حرا ) من هذا الحر الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه . يقول : الذي هو أشد حرا أحرى أن يحذر ويتقى من الذي هو أقلهما أذى ( لو كانوا يفقهون ) يقول : لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظه ، ويتدبرون آي كتابه ، ولكنهم لا يفقهون عن الله فهم يحذرون من الحر أقله مكروها وأخفه أذى ، ويواقعون أشده مكروها وأعظمه على من يصلاه بلاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 400 ] 17033 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ) إلى قوله : ( يفقهون ) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجال : يا رسول الله الحر شديد ، ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفر في الحر . فقال الله : ( قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) فأمره الله بالخروج .
17034 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة في قوله : ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) قال : هي غزوة تبوك .
17035 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا أبو معشر عن وغيره قالوا : محمد بن كعب القرظي خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد إلى تبوك ، فقال رجل من بني سلمة : لا تنفروا في الحر . فأنزل الله : ( قل نار جهنم ) الآية .
17036 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : [ ثم ] ذكر قول بعضهم لبعض حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد ، وأجمع السير إلى تبوك ، على شدة الحر وجدب البلاد . يقول الله - جل ثناؤه - : ( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا ) . [ ص: 401 ]