قال أبو جعفر يعني تعالى ذكره : ( فلما استيأسوا منه ) فلما يئسوا منه من أن يخلي يوسف عن بنيامين ، ويأخذ منهم واحدا مكانه ، وأن يجيبهم إلى ما سألوه من ذلك . [ ص: 204 ]
وقوله ( استيأسوا ) ، " استفعلوا " ، من : " يئس الرجل من كذا ييأس " ، كما : -
19617 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فلما استيأسوا منه ) يئسوا منه ، ورأوا شدته في أمره .
وقوله : ( خلصوا نجيا ) ، يقول بعضهم لبعض يتناجون ، لا يختلط بهم غيرهم .
و " النجي " ، جماعة القوم المنتجين ، يسمى به الواحد والجماعة ، كما يقال : " رجل عدل ، ورجال عدل " ، و " قوم زور ، وفطر " . وهو مصدر من قول القائل : " نجوت فلانا أنجوه نجيا " ، جعل صفة ونعتا . ومن الدليل على أن ذلك كما ذكرنا ، قول الله تعالى ( وقربناه نجيا ) [ سورة مريم : 52 ] فوصف به الواحد ، وقال في هذا الموضع : ( خلصوا نجيا ) فوصف به الجماعة ، ويجمع " النجي " أنجية ، كما قال لبيد :
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا كعبي وأرداف الملوك شهود
وقد يقال للجماعة من الرجال : " نجوى " كما قال جل ثناؤه : ( وإذ هم نجوى ) [ سورة الإسراء : 47 ] وقال : ( ما يكون من نجوى ثلاثة ) [ سورة المجادلة : 7 ] وهم القوم الذين يتناجون . وتكون " النجوى " أيضا مصدرا ، كما قال الله : [ ص: 205 ] ( إنما النجوى من الشيطان ) [ سورة المجادلة : 10 ] تقول منه : " نجوت أنجو نجوى " فهي في هذا الموضع ، المناجاة نفسها ، ومنه قول الشاعر
بني بدا خب نجوى الرجال فكن عند سرك خب النجي
ف " النجوى " و " النجي " ، في هذا البيت بمعنى واحد ، وهو المناجاة ، وقد جمع بين اللغتين .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : ( خلصوا نجيا ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
19618 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن : ( السدي فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) وأخلص لهم شمعون ، وقد كان ارتهنه ، خلوا بينهم نجيا ، يتناجون بينهم .
19619 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خلصوا نجيا ) خلصوا وحدهم نجيا .
19620 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( خلصوا نجيا ) : أي خلا بعضهم ببعض ، ثم قالوا : ماذا ترون؟
وقوله : ( قال كبيرهم ) اختلف أهل العلم في المعني بذلك . [ ص: 206 ]
فقال بعضهم : عني به كبيرهم في العقل والعلم ، لا في السن ، وهو شمعون . قالوا : وكان روبيل أكبر منه في الميلاد .
ذكر من قال ذلك :
19621 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( قال كبيرهم ) قال : هو شمعون الذي تخلف ، وأكبر منه ، أو أكبر منهم في الميلاد ، روبيل .
19622 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قال كبيرهم ) : ، شمعون الذي تخلف ، وأكبر منه في الميلاد روبيل .
19623 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19624 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ، عن ابن جريج مجاهد : ( قال كبيرهم ) ، قال : شمعون الذي تخلف ، وأكبرهم في الميلاد روبيل .
وقال آخرون : بل عني به كبيرهم في السن ، وهو روبيل .
ذكر من قال ذلك :
19625 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قال كبيرهم ) ، وهو روبيل ، أخو يوسف ، وهو ابن خالته ، وهو الذي نهاهم عن قتله .
19626 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( قال كبيرهم ) ، قال : روبيل ، وهو الذي أشار عليهم أن لا يقتلوه . [ ص: 207 ]
19627 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن : ( السدي قال كبيرهم ) في العلم ( أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض ) ، الآية ، فأقام روبيل بمصر ، وأقبل التسعة إلى يعقوب ، فأخبروه الخبر ، فبكى وقال : يا بني ما تذهبون مرة إلا نقصتم واحدا! ذهبتم مرة فنقصتم يوسف ، وذهبتم الثانية فنقصتم شمعون ، وذهبتم الآن فنقصتم روبيل !
19628 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) قال : ماذا ترون؟ فقال روبيل كما ذكر لي ، وكان كبير القوم : ( ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) ، الآية .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : عنى بقوله : ( قال كبيرهم ) روبيل ، لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنا . ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم : " فلان كبير القوم " ، مطلقا بغير وصل ، إلا أحد معنيين : إما في الرياسة عليهم والسؤدد ، وإما في السن . فأما في العقل ، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه ، فقالوا : " هو كبيرهم في العقل " . فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك ، فلا يفهم إلا ما ذكرت .
وقد قال أهل التأويل : لم يكن لشمعون وإن كان قد كان من العلم والعقل بالمكان الذي جعله الله به على إخوته رياسة وسؤدد ، فيعلم بذلك أنه عني بقوله : ( قال كبيرهم ) فإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا الوجه الآخر ، وهو الكبر [ ص: 208 ] في السن ، وقد قال الذين ذكرنا جميعا : " روبيل كان أكبر القوم سنا " ، فصح بذلك القول الذي اخترناه .
وقوله : ( ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ) يقول : ألم تعلموا أيها القوم; أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهود الله ومواثيقه : لنأتينه بهم جميعا ، إلا أن يحاط بكم ( ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) ، ومن قبل فعلتكم هذه ، تفريطكم في يوسف . يقول : أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف؟ وإذا صرف تأويل الكلام إلى هذا الذي قلناه ، كانت " ما " حينئذ في موضع نصب .
وقد يجوز أن يكون قوله : ( ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) خبر مبتدأ ، ويكون قوله : ( ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ) خبرا متناهيا فتكون " ما " حينئذ في موضع رفع ، كأنه قيل : " ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف " فتكون " ما " مرفوعة ب " من " قبل .
هذا ويجوز أن تكون " ما " التي هي صلة في الكلام ، فيكون تأويل الكلام : ومن قبل هذا فرطتم في يوسف .
وقوله : ( فلن أبرح الأرض ) التي أنا بها ، وهي مصر فأفارقها ( حتى يأذن لي أبي ) بالخروج منها ، كما : -
19629 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فلن أبرح الأرض ) التي أنا بها اليوم ( حتى يأذن لي أبي ) ، بالخروج منها .
19630 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 209 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قال شمعون : ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ) .
وقوله : ( أو يحكم الله لي ) ، أو يقضي لي ربي بالخروج منها وترك أخي بنيامين ، وإلا فإني غير خارج ( وهو خير الحاكمين ) ، يقول : والله خير من حكم ، وأعدل من فصل بين الناس .
وكان أبو صالح يقول في ذلك بما : -
19631 - حدثني الحسين بن يزيد السبيعي قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي ) قال : بالسيف .
وكأن أبا صالح وجه تأويل قوله : ( أو يحكم الله لي ) ، إلى : أو يقضي الله لي بحرب من منعني من الانصراف بأخي بنيامين إلى أبيه يعقوب ، فأحاربه .