اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة [ ص: 216 ] ( أولم يروا ) بالياء على الخبر عن الذين مكروا السيئات ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين "أولم تروا" بالتاء على الخطاب .
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ بالياء على وجه الخبر عن الذين مكروا السيئات ، لأن ذلك في سياق قصصهم ، والخبر عنهم ، ثم عقب ذلك الخبر عن ذهابهم عن حجة الله عليهم ، وتركهم النظر في أدلته والاعتبار بها ، فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات ، إلى ما خلق الله من جسم قائم ، شجر أو جبل أو غير ذلك ، يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ، يقول : يرجع من موضع إلى موضع ، فهو في أول النهار على حال ، ثم يتقلص ، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار .
وكان جماعة من أهل التأويل يقولون في اليمين والشمائل ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله ) أما اليمين : فأول النهار ، وأما الشمال : فآخر النهار .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ( ابن جريج يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ) قال : الغدو والآصال ، إذا فاءت الظلال ، ظلال كل شيء بالغدو سجدت لله ، وإذا فاءت بالعشي سجدت لله .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ) يعني : بالغدو والآصال ، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفئ الظل ، ثم تسجد لله إلى الليل ، يعني : ظل كل شيء .
وكان ابن عباس يقوله في قوله ( يتفيأ ظلاله ) ما حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( يتفيأ ظلاله ) يقول : تتميل .
واختلف في معنى قوله ( سجدا لله ) فقال بعضهم : ظل كل شيء سجوده .
[ ص: 217 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( يتفيأ ظلاله ) قال : ظل كل شيء سجوده .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ( يتفيأ ظلاله ) قال : سجد ظل المؤمن طوعا ، وظل الكافر كرها .
وقال آخرون : بل عنى بقوله ( يتفيأ ظلاله ) كلا عن اليمين والشمائل في حال سجودها ، قالوا : وسجود الأشياء غير ظلالها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا ثنا حكام ، عن أبي سنان ، عن ثابت عن الضحاك ، في قول الله ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) قال : إذا فاء الفيء توجه كل شيء ساجدا قبل القبلة ، من نبت أو شجر ، قال : فكانوا يستحبون الصلاة عند ذلك .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحماني ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله ( يتفيأ ظلاله ) قال : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل .
وقال آخرون : بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء ، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، قوله ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) قال : هو سجود الظلال ، ظلال كل شيء ما في السماوات وما في الأرض من دابة ، قال : سجود ظلال الدواب ، وظلال كل شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) ما خلق من كل شيء عن يمينه وشمائله ، فلفظ ما لفظ عن اليمين والشمائل ، قال : ألم تر أنك إذا صليت الفجر ، كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا وقبض الله الظل .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر في هذه الآية أن [ ص: 218 ] ظلال الأشياء هي التي تسجد ، وسجودها : ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، وناحية إلى ناحية ، كما قال ابن عباس يقال من ذلك : سجدت النخلة إذا مالت ، وسجد البعير وأسجد : إذا أميل للركوب . وقد بينا معنى السجود في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وقوله : ( وهم داخرون ) يعني : وهم صاغرون ، يقال منه : دخر فلان لله يدخر دخرا ودخورا : إذا ذل له وخضع ومنه قول : ذي الرمة
فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنجحر في غير أرضك في جحر
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وهم داخرون ) صاغرون .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وهم داخرون ) : أي صاغرون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مثله .
وأما توحيد اليمين في قوله ( عن اليمين والشمائل ) فجمعها ، فإن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن معنى الكلام : أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه : أي ما خلق ، وشمائله ، فلفظ "ما" لفظ واحد ، ومعناه معنى الجمع ، فقال : عن اليمين بمعنى : عن يمين ما خلق ، ثم رجع إلى [ ص: 219 ] معناه في الشمائل ، وكان بعض أهل العربية يقول : إنما تفعل العرب ذلك ، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد ، فيقال للرجل : خذ عن يمينك ، قال : فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم ، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه ، واستشهد لفعل العرب ذلك بقول الشاعر :
بفي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم
الواردون وتيم في ذرا سبإ قد عض أعناقهم جلد الجواميس