القول في تأويل قوله تعالى : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( 25 ) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ( 26 ) )
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) فقال بعضهم : ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك ، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) وقالوا : لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف ، لم يكن لقوله ( قل الله أعلم بما لبثوا ) وجه مفهوم ، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) هذا قول أهل الكتاب ، فرده الله عليهم فقال : ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض ) .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله ( ولبثوا في كهفهم ) قال : في حرف ابن مسعود : ( وقالوا : ولبثوا ( يعني أنه قال الناس ، ألا ترى أنه قال : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) .
حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب عن في قول الله : ( مطر الوراق ، ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين ) قال : إنما هو [ ص: 648 ] شيء قالته اليهود ، فرده الله عليهم وقال : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) .
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) قال : عدد ما لبثوا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد بنحوه ، وزاد فيه ( قل الله أعلم بما لبثوا ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) قال : وتسع سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بنحوه .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثني الأجلح ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : نزلت هذه الآية ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة ) فقالوا : أياما أو أشهرا أو سنين؟ فأنزل الله : ( ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولبثوا في كهفهم ) قال : بين جبلين .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عز ذكره : ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله ، ليتساءلوا بينهم ، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ، ثلاث مائة سنين وتسع سنين ، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه ، وأما الذي ذكر عن ابن مسعود أنه قرأ ( وقالوا : ولبثوا في كهفهم ( وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب ، وقد رد الله ذلك عليهم ، فإن معناه [ ص: 649 ] في ذلك : إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مائة سنين وتسع سنين ، فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه إلى أن بعثهم ليتساءلوا بينهم ، ثم قال جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم ، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا ، لا يعلم بذلك غير الله ، وغير من أعلمه الله ذلك .
فإن قال قائل : وما يدل على أن ذلك كذلك؟ قيل : الدال على ذلك أنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء ، فقال : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه ، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان ، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره ، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره ، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده .
فإن ظن ظان أن قوله : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) دليل على أن قوله : ( ولبثوا في كهفهم ) خبر منه عن قوم قالوه ، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره ، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه : قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة ، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله : ( ولبثوا في كهفهم ) خبر من الله عن قوم قالوه ، وإذا لم يكن دليلا على ذلك ، ولم يأت خبر بأن قوله : ( ولبثوا في كهفهم ) خبر من الله عن قوم قالوه ، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها ، صح ما قلنا ، وفسد ما خالفه .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ثلاث مائة سنين ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين ( ثلاثمائة سنين ) بتنوين : ثلاث مائة ، بمعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة ، وقرأته عامة قراء أهل الكوفة ( ثلاثمائة سنين ) بإضافة ثلاث مائة إلى السنين : غير منون .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ( ثلاث مائة ) بالتنوين ( سنين ) ، وذلك أن العرب إنما تضيف المائة إلى ما يفسرها إذا جاء [ ص: 650 ] تفسيرها بلفظ الواحد ، وذلك كقولهم ثلاث مائة درهم ، وعندي مائة دينار ، لأن المائة والألف عدد كثير ، والعرب لا تفسر ذلك إلا بما كان بمعناه في كثرة العدد ، والواحد يؤدى عن الجنس ، وليس ذلك للقليل من العدد ، وإن كانت العرب ربما وضعت الجمع القليل موضع الكثير ، وليس ذلك بالكثير ، وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الجمع ، فإنها تنون ، فتقول : عندي ألف دراهم ، وعندي مائة دنانير ، على ما قد وصفت .
وقوله : ( له غيب السماوات والأرض ) يقول تعالى ذكره : ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يخفى عليه شيء ، يقول : فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا ، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السماوات والأرض ، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار . لله علم غيب السماوات والأرض
وقوله : ( أبصر به وأسمع ) يقول : أبصر بالله وأسمع ، وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه .
وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أبصر به وأسمع ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، تبارك وتعالى ! .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ) قال : يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا .
وقوله : ( ما لهم من دونه من ولي ) يقول جل ثناؤه : ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم ولي ، يلي أمرهم وتدبيرهم ، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون .
( ولا يشرك في حكمه أحدا ) يقول : ولا يجعل الله في قضائه ، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا ، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم ، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحب .