يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) يعني : اللاتي تزوجتهن بصداق مسمى .
كما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) قال : صدقاتهن .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) إلى قوله ( خالصة لك من دون المؤمنين ) فما كان من هذه [ ص: 285 ] التسمية ما شاء كثيرا أو قليلا .
وقوله ( أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) يقول : وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهن ، فملكتهن بالسباء ، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء ( وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ) فأحل الله له - صلى الله عليه وسلم - من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، المهاجرات معه منهن دون من لم يهاجر منهن معه .
كما حدثنا أبو كريب قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عن السدي ، أبي صالح ، أم هانئ ، قالت : خطبني النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت له بعذري ، ثم أنزل الله عليه ( إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) إلى قوله ( اللاتي هاجرن معك ) قالت : فلم أحل له ؛ لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء . عن
وقد ذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود ( وبنات خالاتك والاتي هاجرن معك ) بواو ، وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو ، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من تقدم ذكره أحيانا ، كما قال الشاعر :
فإن رشيدا وابن مروان لم يكن ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا
ورشيد هو ابن مروان ، وكان الضحاك بن مزاحم يتأول قراءة عبد الله هذه أنهن نوع غير بنات خالاته وأنهن كل مهاجرة هاجرت مع النبي صلى الله [ ص: 286 ] عليه وسلم .
ذكر الخبر عنه بذلك :
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود ( واللاتي هاجرن معك ) يعني بذلك : كل شيء هاجر معه ليس من بنات العم والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة .
وقوله ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) يقول : وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق .
كما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) بغير صداق ، فلم يكن يفعل ذلك وأحل له خاصة من دون المؤمنين .
وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( وامرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي ) بغير " إن " ، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها " إن " واحد ، وذلك كقول القائل في الكلام : لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها ، وجارية مملوكة ملكها .
وقوله ( إن أراد النبي أن يستنكحها ) يقول : إن أراد أن ينكحها فحلال له أن ينكحها وإذا وهبت نفسها له بغير مهر ( خالصة لك ) يقول : لا يحل لأحد من أمتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له ، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( خالصة لك من دون المؤمنين ) يقول : ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر ، إلا للنبي ، كانت له خالصة من دون الناس ويزعمون أنها نزلت في أنها التي وهبت نفسها للنبي . ميمونة بنت الحارث
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله [ ص: 287 ] ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك . . . ) إلى قوله ( خالصة لك من دون المؤمنين ) قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهن له ، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج .
حدثني يعقوب قال : ثنا عن ابن علية ، صالح بن مسلم قال : سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل ، قال : لا يكون ، لا تحل له ، إنما كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( إن وهبت نفسها ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( إن وهبت ) بكسر الألف على وجه الجزاء ، بمعنى : إن تهب . وذكر عن أنه قرأ : ( أن وهبت ) بفتح الألف ، بمعنى : وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها ؛ لهبتها له نفسها . الحسن البصري
والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الألف لإجماع الحجة من القراء عليه .
وأما قوله ( خالصة لك من دون المؤمنين ) ليس ذلك للمؤمنين ، وذكر أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوج أي النساء شاء ، فقصره الله على هؤلاء ، فلم يعدهن ، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت عن داود بن أبي هند ، محمد بن أبي موسى ، عن زياد رجل من الأنصار ، عن أبي بن كعب ، أن التي أحل الله للنبي من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ) إلى قوله ( في أزواجهم ) وإنما أحل الله للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع . [ ص: 288 ]
وحدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ) إلى آخر الآية ، قال : حرم الله عليه ما سوى ذلك من النساء ، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء ، لم يحرم ذلك عليه ، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أي الناس أحب ؛ فلما أنزل الله : إني قد حرمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك ، أعجب ذلك نساءه .
واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنات ، وهل كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة كذلك ؟ فقال بعضهم : لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عن يونس بن بكير ، عنبسة بن الأزهر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) قال : أن تهب . وأما الذين قالوا : قد كان عنده منهن فإن بعضهم قال : كانت . وقال بعضهم : هي ميمونة بنت الحارث . وقال بعضهم : أم شريك . زينب بنت خزيمة
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الأعلى قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) قال : هي . [ ص: 289 ] ميمونة بنت الحارث
وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة قال : ثني الحكم قال : كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم ، قال : فكتب إليه علي ، قال شعبة : وهو ظني علي بن حسين قال : وقد أخبرني به عن أبان بن تغلب ، الحكم ، أنه علي بن الحسين الذي كتب إليه ، قال : هي امرأة من الأسد يقال لها وهبت نفسها للنبي . أم شريك ،
قال : ثنا شعبة قال : ثني عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار ، وهبت نفسها للنبي ، وهي ممن أرجأ .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني سعيد ، عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ، كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال : ثني سعيد بن أبي الزناد ، عن عن أبيه ، قال : كنا نتحدث أن هشام بن عروة ، كانت وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت امرأة صالحة . أم شريك
وقوله : ( قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ) يقول - تعالى ذكره - : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهن مما لم نفرضه عليك ، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحل لهم عقد نكاح على حرة مسلمة إلا بولي عصبة وشهود عدول ، ولا يحل لهم منهن أكثر من أربع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال : ثنا مطهر قال : ثنا علي بن الحسين قال : ثني أبي ، عن مطر ، عن قتادة في قول الله ( قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ) [ ص: 290 ] قال : إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار أبو أحمد قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ) قال : في الأربع .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ) قال : كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوج امرأة إلا بولي وصداق عند شاهدي عدل ، ولا يحل لهم من النساء إلا أربع وما ملكت أيمانهم .
وقوله : ( وما ملكت أيمانهم ) يقول - تعالى ذكره - : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم ، لأنه لا يحل لهم منهن أكثر من أربع ، وما ملكت أيمانهم ، فإن جميعهن إذا كن مؤمنات أو كتابيات ، لهم حلال بالسباء والتسري وغير ذلك من أسباب الملك .
وقوله ( لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ) يقول - تعالى ذكره - : إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إن أراد النبي أن يستنكحها ؛ لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهن من المسميات في هذه الآية ، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه .