القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ( 33 ) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 ) )
يقول - تعالى ذكره - : ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : [ ص: 469 ] تلا الحسن : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) قال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحب الخلق إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، فهذا خليفة الله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) . . . الآية ، قال : هذا عبد صدق قوله عمله ، ومولجه مخرجه ، وسره علانيته ، وشاهده مغيبه ، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله ، ومولجه مخرجه ، وسره علانيته ، وشاهده مغيبه .
واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس ، فقال بعضهم : عنى بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - حين دعا إلى الإسلام .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) قال : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال آخرون : عنى به المؤذن .
ذكر من قال ذلك :
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن ، في قول الله : ( قيس بن أبي حازم ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) قال : المؤذن ( وعمل صالحا ) قال : الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة . [ ص: 470 ]
وقوله : ( وقال إنني من المسلمين ) يقول : وقال : إنني ممن خضع لله بالطاعة ، وذل له بالعبودة ، وخشع له بالإيمان بوحدانيته .
وقوله : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) يقول - تعالى ذكره - : ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فأحسنوا في قولهم ، وإجابتهم وبهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته ، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه ، وسيئة الذين قالوا : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم ، ولكنها تختلف كما وصف - جل ثناؤه - أنه خالف بينهما ، وقال - جل ثناؤه - : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) فكرر لا والمعنى : لا تستوي الحسنة ولا السيئة ، لأن كل ما كان غير مساو شيئا ، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه ، كما أن كل ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو ، مساو له ، فيقال : فلان مساو فلانا ، وفلان له مساو ، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان ، لا فلان مساويا له ، فلذلك كررت لا مع السيئة ، ولو لم تكن مكررة معها كان الكلام صحيحا . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : يجوز أن يقال : الثانية زائدة؛ يريد : لا يستوي عبد الله وزيد ، فزيدت لا توكيدا ، كما قال ( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون ) أي لأن يعلم ، وكما قال : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ) ، وفي قوله : ( لا أقسم ) فيقول : لا الثانية في قوله : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ) أن لا يقدرون ردت إلى موضعها ، لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم ، كما يقال : لا أظن زيدا لا يقوم ، بمعنى : أظن زيدا لا يقوم؛ قال : وربما استوثقوا فجاءوا به أولا وآخرا ، وربما اكتفوا بالأول من الثاني .
وحكي سماعا من العرب : ما كأني أعرفها : أي كأني لا أعرفها . قال : وأما " لا " في قوله ( لا أقسم ) فإنما هو جواب ، والقسم بعدها مستأنف ، ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة . [ ص: 471 ]
وإنما عنى بقوله . ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) . ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته
وقوله : ( ادفع بالتي هي أحسن ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك ، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء ، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم ، ويلقاك من قبلهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله .
ذكر من قال ذلك .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ادفع بالتي هي أحسن ) قال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم ، كأنه ولي حميم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار أبو عامر قال : ثنا سفيان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ( ادفع بالتي هي أحسن ) قال : بالسلام .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن مجاهد ( ادفع بالتي هي أحسن ) قال : السلام عليك إذا لقيته .
وقوله : ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) يقول - تعالى ذكره - : افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه ، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ، كأنه من ملاطفته إياك . وبره لك ، ولي لك من بني أعمامك ، قريب النسب بك ، والحميم : هو القريب . [ ص: 472 ]
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد . قال : ثنا سعيد ، ، عن قتادة ( كأنه ولي حميم ) : أي كأنه ولي قريب .