قال أبو جعفر : وفي هذه الآية وجهان من التأويل .
أحدهما : أن تكون " الهاء والميم " من قوله : " وإذا قيل لهم " عائدة على " من " في قوله : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " فيكون معنى الكلام : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ، وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله . قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .
والآخر : أن تكون " الهاء والميم " اللتان في قوله : " وإذا قيل لهم " ، من ذكر " الناس " الذين في قوله : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " ، فيكون [ ص: 305 ] ذلك انصرافا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب ، كما في قوله تعالى ذكره : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) [ سورة يونس : 22 ]
قال أبو جعفر : وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية أن تكون " الهاء والميم " في قوله : " لهم " ، من ذكر " الناس " ، وأن يكون ذلك رجوعا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب . لأن ذلك عقيب قوله : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض" . فلأن يكون خبرا عنهم ، أولى من أن يكون خبرا عن الذين أخبر أن منهم " من يتخذ من دون الله أندادا " ، مع ما بينهما من الآيات ، وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرها وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك ، إذ دعوا إلى الإسلام ، كما : -
2446 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا عن سلمة بن الفضل محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم عقاب الله ونقمته ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، فإنهم كانوا أعلم وخيرا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " [ ص: 306 ] .
2447 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قال : حدثنا يونس بن بكير محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال : فقال له أبو رافع بن خارجة ومالك بن عوف .
وأما ، فإنه : اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، واجعلوه لكم إماما تأتمون به ، وقائدا تتبعون أحكامه . تأويل قوله : " اتبعوا ما أنزل الله "
وقوله : " ألفينا عليه آباءنا " ، يعني وجدنا ، كما قال الشاعر :
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا
[ ص: 307 ]يعني : وجدته ، وكما : -
2448 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " ، أي : ما وجدنا عليه آباءنا .
2449 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذا قيل لهؤلاء الكفار : كلوا مما أحل الله لكم ، ودعوا خطوات الشيطان وطريقه ، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحق وقالوا : بل نأتم بآبائنا فنتبع ما وجدناهم عليه ، من تحليل ما كانوا يحلون ، وتحريم ما كانوا يحرمون .
قال الله تعالى ذكره : " أو لو كان آباؤهم " - يعني : آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم - " لا يعقلون شيئا " من دين الله وفرائضه ، وأمره ونهيه ، فيتبعون على ما سلكوا من الطريق ، ويؤتم بهم في أفعالهم - " ولا يهتدون " لرشد ، فيهتدي بهم غيرهم ، ويقتدي بهم من طلب الدين ، وأراد الحق والصواب؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار : فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتم عليه [ ص: 308 ] آباءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم ، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئا ، ولا هم مصيبون حقا ، ولا مدركون رشدا؟ وإنما يتبع المتبع ذا المعرفة بالشيء المستعمل له في نفسه ، فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل - إلا من لا عقل له ولا تمييز .