قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بل كلوا ذلك ، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل به لغيري .
ومعنى قوله : " إنما حرم عليكم الميتة " ، ما حرم عليكم إلا الميتة . [ ص: 318 ]
" وإنما " : حرف واحد ، ولذلك نصبت " الميتة والدم " ، وغير جائز في " الميتة " إذا جعلت " إنما " حرفا واحدا - إلا النصب . ولو كانت " إنما " حرفين ، وكانت منفصلة من " إن " ، لكانت " الميتة " مرفوعة وما بعدها . وكان تأويل الكلام حينئذ : إن الذي ، لا غير ذلك . حرم الله عليكم من المطاعم الميتة والدم ولحم الخنزير
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك ، على هذا التأويل . ولست للقراءة به مستجيزا وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم - لاتفاق الحجة من القراء على خلافه . فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه .
ولو قرئ في " حرم " بضم الحاء من " حرم " ، لكان في " الميتة " وجهان من الرفع . أحدهما : من أن الفاعل غير مسمى ، " وإنما " حرف واحد .
والآخر : " إن " و" ما " في معنى حرفين ، و" حرم " من صلة " ما " ، " والميتة " خبر " الذي " مرفوع على الخبر . ولست ، وإن كان لذلك أيضا وجه ، مستجيزا للقراءة به ، لما ذكرت .
وأما " الميتة " ، فإن القراءة مختلفة في قراءتها . فقرأها بعضهم بالتخفيف ، ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون في : " هو هين لين " " الهين اللين " ، كما قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
[ ص: 319 ]فجمع بين اللغتين في بيت واحد ، في معنى واحد .
وقرأها بعضهم بالتشديد ، وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو " ميوت " ، " فيعل " ، من الموت . ولكن " الياء " الساكنة و" الواو " المتحركة لما اجتمعتا ، " والياء " مع سكونها متقدمة ، قلبت " الواو " " ياء " وشددت ، فصارتا " ياء " مشددة ، كما فعلوا ذلك في " سيد وجيد " . قالوا : ومن خففها ، فإنما طلب الخفة . والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في " ياء " " الميتة " لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب . لأنه لا اختلاف في معنييهما .
وأما قوله : " وما أهل به لغير الله " ، فإنه يعني به : وما ذبح للآلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه ، أو قصد به غيره من الأصنام .
وإنما قيل : " وما أهل به " ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها ، وجهروا بذلك أصواتهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك ، حتى قيل لكل ذابح ، سمى أو لم يسم ، جهر بالتسمية أو لم يجهر - : " مهل " . فرفعهم أصواتهم بذلك هو " الإهلال " الذي ذكره الله تعالى فقال : " وما أهل به لغير الله " . ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة " مهل " ، لرفعه صوته بالتلبية . ومنه " استهلال " الصبي ، إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه ، " واستهلال " المطر ، وهو صوت وقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :
[ ص: 320 ] ظلم البطاح له انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد المقلع
واختلف أهل التأويل في ذلك . فقال بعضهم : يعني بقوله : " وما أهل به لغير الله " ، . ما ذبح لغير الله
ذكر من قال ذلك :
2468 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " وما أهل به لغير الله " قال : ما ذبح لغير الله .
2469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " وما أهل به لغير الله " قال : ما ذبح لغير الله مما لم يسم عليه .
2470 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " وما أهل به لغير الله " ، ما ذبح لغير الله .
2471 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال قال ابن جريج ابن عباس في قوله : " وما أهل به لغير الله " قال : ما أهل به للطواغيت .
2472 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر عن الضحاك قال : " وما أهل به لغير الله " قال : ما أهل به للطواغيت .
2473 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وما أهل به لغير الله " ، يعني : ما أهل للطواغيت كلها . يعني : ما ذبح لغير الله من أهل الكفر ، غير اليهود والنصارى .
2474 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن عطاء في قول الله : " وما أهل به لغير الله قال : هو ما ذبح لغير الله . [ ص: 321 ]
وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله .
ذكر من قال ذلك :
2475 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قوله : " وما أهل به لغير الله " ، يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله .
2476 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد - وسألته عن قول الله : " وما أهل به لغير الله " - قال : ما يذبح لآلهتهم ، الأنصاب التي يعبدونها أو يسمون أسماءها عليها . قال : يقولون : " باسم فلان " ، كما تقول أنت : " باسم الله " قال : فذلك قوله : " وما أهل به لغير الله " .
2477 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثنا حيوة عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : أحل لنا ما ذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب . قال حيوة ، قلت : أرأيت قول الله : " وما أهل به لغير الله " ؟ قال : إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .