وقوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى كيف فعل ربك بعاد ؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إرم ) فقال بعضهم : هي اسم بلدة ، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عنيت بذلك ، فقال بعضهم : عنيت به الإسكندرية . [ ص: 404 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبي صخر ، عن القرظي ، أنه سمعه يقول : ( إرم ذات العماد ) الإسكندرية .
قال أبو جعفر ، وقال آخرون : هي دمشق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي من أهل البصرة ، قال : ثنا عبيد الله بن عبد المجيد ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن المقبري ( بعاد إرم ذات العماد ) قال : دمشق .
وقال آخرون : عني بقوله : ( إرم ) : أمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد قوله : ( إرم ) قال : أمة .
وقال آخرون : معنى ذلك : القديمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إرم ) قال : القديمة .
وقال آخرون : تلك قبيلة من عاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) قال : كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد ، بيت مملكة عاد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( إرم ) قال : قبيلة من عاد كان يقال لهم : إرم ، جد عاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يقول الله : بعاد إرم ، إن عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح .
وقال آخرون : ( إرم ) : الهالك . [ ص: 405 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يعني بالإرم : الهالك ; ألا ترى أنك تقول : أرم بنو فلان ؟
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بعاد إرم ) الهلاك ; ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان : أي هلكوا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك ردت على عاد للإتباع لها ، ولم يجر من أجل ذلك ، وإما اسم قبيلة فلم يجر أيضا ، كما لا يجرى أسماء القبائل ، كتميم وبكر ، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة ، وأما اسم عاد فلم يجر ، إذ كان اسما أعجميا .
فأما ما ذكر عن مجاهد أنه قال : عني بذلك القديمة ، فقول لا معنى له ؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان محفوظا بالتنوين ، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة .
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها ، وترك إجرائها ، كما يقال : ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل ؟ فيترك إجراء نهشل ، وهي قبيلة ، فترك إجراؤها لذلك ، وهي في موضع خفض بالرد على تميم ، ولو كانت إرم اسم بلدة ، أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرو زبيد وحاتم طيئ ، وأعشى همدان ، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى ، كما قال قتادة ، والله أعلم ، فلذلك أجمعت القراء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء .
وقوله : ( ذات العماد ) اختلف أهل التأويل في ذات العماد ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : ذات الطول ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل معمد ، وقالوا : كانوا طوال الأجسام . معنى قوله : (
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، [ ص: 406 ] عن أبيه ، عن ابن عباس ( ذات العماد ) يعني : طولهم مثل العماد .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد قوله : ( ذات العماد ) قال : كان لهم جسم في السماء .
وقال بعضهم : بل قيل لهم : ( ذات العماد ) لأنهم كانوا أهل عمد ، ينتجعون الغيوث ، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( العماد ) قال : أهل عمود لا يقيمون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ذات العماد ) قال : ذكر لنا أنهم كانوا أهل عمود لا يقيمون ، سيارة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ذات العماد ) قال : كانوا أهل عمود .
وقال آخرون : بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم ، فشيد عمده ، ورفع بناءه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إرم ذات العماد ) قال : عاد قوم هود بنوها وعملوها حين كانوا في الأحقاف ، قال : ( لم يخلق مثلها ) مثل تلك الأعمال في البلاد ، قال : وكذلك في الأحقاف في حضرموت ، ثم كانت عاد ، قال : وثم أحقاف الرمل ، كما قال الله : بالأحقاف من الرمل ، رمال أمثال الجبال تكون مظلة مجوفة .
وقال آخرون : قيل ذلك لهم لشدة أبدانهم وقواهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ذات العماد ) يعني : الشدة والقوة .
وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال : عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود ، سيارة ؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عمل [ ص: 407 ] به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح ، بل وجه أهل التأويل قوله : ( ذات العماد ) إلى أنه عني به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنه عني به عماد خيامهم ، فأما عماد البنيان ، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه ، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ما وجد إلى ذلك سبيلا دون الأنكر .
وقوله : ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) يقول جل ثناؤه : ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم التي لم يخلق مثلها في البلاد ، يعني : مثل عاد ، والهاء عائدة على عاد . وجائز أن تكون عائدة على إرم لما قد بينا قبل أنها قبيلة . وإنما عني بقوله : لم يخلق مثلها في العظم والبطش والأيد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) ذكر أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا في السماء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ، لم يخلق مثل الأعمدة في البلاد ، وقالوا : التي لم يخلق مثلها من صفة ذات العماد ، والهاء التي في مثلها إنما هي من ذكر ذات العماد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فذكر نحوه . وهذا قول لا وجه له ؛ لأن العماد واحد مذكر ، والتي للأنثى ، ولا يوصف المذكر بالتي ، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل : الذي لم يخلق مثله في البلاد ، وإن جعلت التي لإرم ، وجعلت الهاء عائدة في قوله : ( مثلها ) عليها ، وقيل : هي دمشق أو إسكندرية ، فإن بلاد عاد هي التي وصفها الله في كتابه فقال : ( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ) والأحقاف : هي جمع حقف ، وهو ما انعطف من الرمل وانحنى ، وليست الإسكندرية ولا دمشق من بلاد الرمال ، بل ذلك الشحر من بلاد حضرموت ، وما والاها .
وقوله : ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يقول : وبثمود الذين خرقوا الصخر ودخلوه فاتخذوه بيوتا ، كما قال جل ثناؤه : ( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ) [ ص: 408 ] والعرب تقول : جاب فلان الفلاة يجوبها جوبا : إذا دخلها وقطعها ، ومنه قول نابغة :
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى دجى الليل جواب الفلاة عميم
يعني بقوله : يجوب يدخل ويقطع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يقول : فخرقوها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يعني : ثمود قوم صالح ، كانوا ينحتون من الجبال بيوتا .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد في قوله : ( الذين جابوا الصخر بالواد ) قال : جابوا الجبال ، فجعلوها بيوتا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) : جابوها ونحتوها بيوتا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ( جابوا الصخر ) قال : نقبوا الصخر .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( جابوا الصخر بالواد ) يقول : قدوا الحجارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( الذين جابوا الصخر بالواد ) : ضربوا البيوت والمساكن في الصخر في الجبال ، حتى جعلوا فيها مساكن . جابوا : جوبوها تجوبوا البيوت في الجبال ، قال قائل :
ألا كل شيء ما خلا الله بائد كما باد حي من شنيق ومارد
[ ص: 409 ] هم ضربوا في كل صلاء صعدة بأيد شداد أيدات السواعد
وقوله : ( وفرعون ذي الأوتاد ) يقول جل ثناؤه : ألم تر كيف فعل ربك أيضا بفرعون صاحب الأوتاد .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( ذي الأوتاد ) ولم قيل له ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ذي الجنود الذين يقوون له أمره ، وقالوا : الأوتاد في هذا الموضع : الجنود .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وفرعون ذي الأوتاد ) قال : الأوتاد : الجنود الذين يشدون له أمره ، ويقال : كان فرعون يوتد في أيديهم وأرجلهم أوتادا من حديد ، يعلقهم بها .
وقال آخرون : بل قيل له ذلك لأنه كان يوتد الناس بالأوتاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ذي الأوتاد ) قال : كان يوتد الناس بالأوتاد .
وقال آخرون : كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وفرعون ذي الأوتاد ) ذكر لنا أنها كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ذي الأوتاد ) قال : ذي البناء كانت مظال يلعب له تحتها ، وأوتاد تضرب له .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ثابت البناني ، عن أبي رافع ، قال : أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت .
وقال آخرون : بل ذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد . [ ص: 410 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن محمود ، عن سعيد بن جبير ( وفرعون ذي الأوتاد ) قال : كان يجعل رجلا هاهنا ورجلا هاهنا ، ويدا هاهنا ويدا هاهنا بالأوتاد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ذي الأوتاد ) قال : كان يوتد الناس بالأوتاد .
وقال آخرون : إنما قيل ذلك لأنه كان له بنيان يعذب الناس عليه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ( وفرعون ذي الأوتاد ) قال : كان له منارات يعذبهم عليها .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عني بذلك : الأوتاد التي توتد ، من خشب كانت أو حديد ؛ لأن ذلك هو المعروف من معاني الأوتاد ، ووصف بذلك ؛ لأنه إما أن يكون كان يعذب الناس بها ، كما قال أبو رافع وإما أن يكون كان يلعب له بها . وسعيد بن جبير ،
وقوله : ( الذين طغوا في البلاد ) يعني بقوله جل ثناؤه ( الذين ) : عادا وثمود وفرعون وجنده ، ويعني بقوله ( طغوا ) : تجاوزوا ما أباحه لهم ربهم ، وعتوا على ربهم إلى ما حظره عليهم من الكفر به . وقوله : ( في البلاد ) : التي كانوا فيها .