القول في وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) تأويل قوله جل ثناؤه : (
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية :
فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعد .
337 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت يحدث ، عن المنهال بن عمرو عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . [ ص: 288 ]
338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن وغيره ، عن زيد بن وهب سلمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعد .
وقال آخرون بما :
339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن في خبر ذكره ، عن السدي أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن ، عن مرة الهمداني ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، هم المنافقون . أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية .
340 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) يقول : لا تعصوا في الأرض ( قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : فكان فسادهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة . [ ص: 289 ]
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة .
وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعد " أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأن هذه الآيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير .
والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ سورة البقرة : 30 ] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك : مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم [ ص: 290 ] يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره ، والأليم من عذابه ، والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : ( صفة أهل النفاق ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه ، بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .