الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        838 حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال أخبرنا جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر أية ساعة هذه قال إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت فقال والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        حديث مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عمر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - " أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة " الحديث أورده من رواية جويرية ابن أسماء عن مالك وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر ، فحكى الإسماعيلي عن البغوي بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عن عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي ، أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر ابن عمر . وقال الدارقطني في الموطأ رواه جماعة من أصحاب مالك الثقات عنه خارج الموطأ موصولا عنهم فذكر هؤلاء الثلاثة ثم قال : وأبو عاصم النبيل وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم وعبد الوهاب بن عطاء ، وذكر جماعة غيرهم في بعضهم مقال ، ثم ساق أسانيدهم إليهم بذلك ، وزاد ابن عبد البر فيمن وصله عن مالك القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه ، ورواه عن الزهري موصولا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ ، ولجويرية بنت أسماء فيه إسناد آخر أعلى من روايته عن مالك أخرجه الطحاوي وغيره من رواية أبي غسان عنه عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بينا ) أصله " بين " وأشبعت الفتحة ، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما " وهي رواية يونس ، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذ جاء رجل ) في رواية المستملي والأصيلي وكريمة " إذ دخل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من المهاجرين الأولين ) قيل في تعريفهم من صلى إلى القبلتين ، وقيل من شهد بدرا ، وقيل من شهد بيعة الرضوان . ولا شك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه ، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى من هاجر قبل التحويل ، وقد سمى ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في الموطأ الرجل المذكور عثمان بن عفان ، وكذا سماه معمر في روايته عن الزهري عند الشافعي وغيره ، وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر ، قال ابن عبد البر : لا أعلم خلافا في ذلك ، وقد سماه أيضا أبو هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم كما سيأتي بعد بابين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فناداه ) أي قال له يا فلان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أية ساعة هذه ) أية بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها ، والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا ، وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار ، وكأنه يقول : لم تأخرت إلى هذه الساعة ؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة فقال عمر : لم تحتبسون عن الصلاة ، وفي رواية مسلم " فعرض عنه عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء " والذي يظهر أن عمر قال ذلك [ ص: 419 ] كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما سيأتي قريبا ، وهذا من أحسن التعويضات وأرشق الكنايات ، وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إني شغلت ) بضم أوله ، وقد بين جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال " انقلبت من السوق فسمعت النداء " والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما سيأتي بعد أبواب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلم أزد على أن توضأت ) لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء ، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والوضوء أيضا ؟ ) فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثان مضاف إلى الأول ، وقوله " والوضوء " في روايتنا بالنصب ، وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم ، أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل ؟ والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء ؟ وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه ، وأغرب السهيلي فقال : اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار ، يعني والوضوء لا ينكر ، وجوابه ما تقدم . والظاهر أن الواو عاطفة . وقال القرطبي : هي عوض عن همزة استفهام كقراءة ابن كثير " قال فرعون وآمنتم به " وقوله " أيضا " أي ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه ؟ ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك ، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت ، وأنه بادر عند سماع النداء ، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة ، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كان يأمر بالغسل ) كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور ، إلا أن في رواية جويرية عن نافع بلفظ " كنا نؤمر " وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة " أن عمر قال له : لقد علم أنا أمرنا بالغسل . قلت : أنتم المهاجرون الأولون أم الناس جميعا ؟ قال : لا أدري " رواته ثقات ، إلا أنه معلول . وقد وقع في رواية أبي هريرة في هذه القصة " أن عمر قال : ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل كذا هو في الصحيحين وغيرهما ، وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين . وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر ، وتفقد الإمام رعيته ، وأمره لهم بمصالح دينهم ، وإنكاره على من أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل ، ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها ، وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك . وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر ، وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة ، لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة . واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر ، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان . وفيه شهود الفضلاء السوق ، ومعاناة المتجر فيها . وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل [ ص: 420 ] التأذين . وقال عياض : فيه حجة لأن السعي إنما يجب بسماع الأذان ، وأن شهود الخطبة لا يجب ، وهو مقتضى قول أكثر المالكية . وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة ، بل تقدم ما يدل على أنه لم يفت عثمان من الخطبة شيء . وعلى تقدير أن يكون فاته منها شيء فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة . واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه ، وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكورة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك ، وعلى أن الغسل ليس شرطا لصحة الجمعة . وسيأتي البحث فيه في الحديث بعده .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية