خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان
تفريع على قوله : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسس على التقوى بالصلاة فيه .
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقا بالصلاة فيه بعد النهي ; لأن صلاة النبيء - صلى الله عليه [ ص: 34 ] وسلم - لو وقعت لأكسبت مقصد واضعيه رواجا بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم .
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير .
والاستفهام تقريري .
والتأسيس : بناء الأساس ، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص .
والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغفران والكفران ، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء . ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة . وهو هنا مطلق على المفعول ، أي المبني .
وماصدق ( من ) صاحب البناء ومستحقه ، فإضافة البنيان إلى ضمير ( من ) إضافة على معنى اللام .
وشبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء ، فاستعير له فعل ( أسس ) في الموضعين .
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين ، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية ، ورمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء . وفهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفا جرف هار ، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرف جرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية . وحرف الاستعلاء ترشيح .
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المؤسس على شفا جرف هار بساكنه في هوة . وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه . فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها . ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه [ ص: 35 ] لأن غرض الباني دوام ما بناه . فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله - تعالى - ولم يذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذكر في مقابله علم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة ، كما دلت عليه المقابلة ، وأن البنيان الثاني لم يحصل غرض بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد ، وكان عدم ثباته مفضيا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك .
والشفا - بفتح الشين وبالقصر - : حرف البئر وحرف الحفرة .
والجرف - بضمتين - : جانب الوادي وجانب الهوة .
وهار : اسم مشتق من ( هار البناء ) إذا تصدع ، فقيل : أصله ( هور ) بفتحتين كما قالوا خلف في خالف . وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، وقيل هو اسم فاعل من ( هار البناء ) وأصل وزنه هاور ، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفا . وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم : شاكي السلاح ، أصله شائك . ورجل صات عالي الصوت أصله صائت . ويدل لذلك قولهم : انهار ولم يقولوا انهرى . وهر مبالغة في هار .
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل ( أسس ) في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع بنيانه في الموضعين . وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب بنيانه في الموضعين .
وقرأ الجمهور " جرف " بضم الراء . وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف - بسكون الراء - .
وجملة والله لا يهدي القوم الظالمين تذييل ، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم .