استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافين بالمدينة إذا خرج النبيء - صلى الله عليه وسلم - للغزو . فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحرس ذاته .
والذين هم حول المدينة من الأعراب هم : مزينة ، وأشجع ، وغفار ، وجهينة ، وأسلم .
وصيغة ما كان لأهل المدينة خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة ، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم ، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا .
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك ، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ إلخ .
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب . وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبيء - صلى الله عليه وسلم - للغزو . وقال قتادة وجماعة : هذا الحكم خاص بخروج النبيء - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو محكم غير منسوخ . وبذلك جزم من المالكية . قال ابن بطال زيد بن أسلم : كان هذا حكما عاما في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله - تعالى : وجابر بن زيد وما كان المؤمنون لينفروا كافة فصار وجوب الجهاد على الكفاية . وقال ابن عطية : هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخروج . واختاره فخر الدين .
والتخلف : البقاء في المكان بعد الغير ممن كان معه فيه ، وقد تقدم عند قوله : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله
[ ص: 56 ] والرغبة تعدى بحرف ( في ) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه ، وتعدي بحرف ( عن ) فتفيد معنى المجافاة للشيء ، كما تقدم في قوله - تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم وهي هنا معداة بـ ( عن ) . أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول ، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه ملابسين لأنفسهم ، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قربا ، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول - عليه الصلاة والسلام - من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه .
والباء في قوله : ( بأنفسهم ) للملابسة وهي في موضع الحال . نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء للملابسة . وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبسا بها . وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز .
قال في الكشاف : " أمروا أن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له " اهـ .
وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية .
والإشارة بـ ( ذلك ) إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتا لهم ، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله .
والباء في ( بأنهم ) للسببية . والظمأ : العطش ، والنصب : التعب ، والمخمصة : الجوع . وتقدم في قوله : فمن اضطر في مخمصة في سورة العقود .
والوطء : الدوس بالأرجل . والموطئ : مصدر ميمي للوطء . والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو ، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش ، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعارا لإذلال العدو وغلبته وإبادته ، كقول الحارث بن وعلة الذهلي من شعراء الحماسة :
[ ص: 57 ]
ووطئتنا وطئا على حنق وطء المقيد نابت الهرم
وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم .
والنيل : مصدر ( ينالون ) . يقال : نال منه إذا أصابه برزء . وبذلك لا يقدر له مفعول . وحرف ( من ) مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية . ورزء العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر ، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال . فجملة كتب لهم به عمل صالح في موضع الحال ، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد . والضمير في به عائد على نصب وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر ، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفردا على المتعاطفات بـ ( أو ) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحدا منه . ومعنى كتب لهم به عمل صالح أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح ، أي جعل الله كل عمل من تلك الأعمال عملا صالحا وإن لم يقصد به عاملوه تقربا إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله - تعالى - بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها . وذلك بأن جعل لهم عليها ثوابا كما جعل للأعمال المقصود بها القربة ، كما ورد أن نوم الصائم عبادة .
وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله : إن الله لا يضيع أجر المحسنين
ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية إن الله لا يضيع أجر المحسنين بوجه الإيجاز .