لما أفاد قوله : فكان من المغرقين وقوع الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمت انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان .
وبناء فعل ( قيل ) للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول ؛ لأن مثله لا يصدر إلا من الله . والقول هنا أمر التكوين . وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية . فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعية .
والبلع : حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم . وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة ، ومعنى بلع الأرض ماءها دخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل ، وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفا انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض .
وإضافة الماء إلى الأرض لأدنى ملابسة لكونه على وجهها .
وإقلاع السماء مستعار لكف نزول المطر منها لأنه إذا كف نزول المطر لم يخلف الماء الذي غار في الأرض ، ولذلك قدم الأمر بالبلع لأنه السبب الأعظم لغيض الماء .
وفي قران الأرض والسماء محسن الطباق ، وفي مقابلة ابلعي بـ أقلعي محسن الجناس .
[ ص: 79 ] وغيض الماء مغن عن التعرض إلى كون السماء أقلعت والأرض بلعت ، وبني فعل غيض الماء للنائب لمثل ما بني فعل وقيل باعتبار سبب الغيض ، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله مسبب عن سبب والغيض : نضوبه في الأرض . والمراد : الماء الذي نشأ بالطوفان زائدا على بحار الأرض وأوديتها . وقضاء الأمر : إتمامه . وبناء الفعل للنائب للعلم بأن فاعله ليس غير الله تعالى .
والاستواء : الاستقرار .
والجودي : اسم جبل بين العراق وأرمينا ، يقال له اليوم ( أراراط ) . وحكمة إرسائها على جبل أن جانب الجبل أمكن لاستقرار السفينة عند نزول الراكبين لأنها تخف عندما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى جانب الجبل .
و ( بعدا ) مصدر ( بعد ) على مثال كرم وفرح ، منصوب على المفعولية المطلقة . وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه ، كالمدح والذم مثل : تبا له ، وسحقا ، وسقيا ، ورعيا ، وشكرا . والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء ، فلذلك يقال : بعد أو نحوه لمن فقد ، إذا كان مكروها كما هنا . ويقال نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد ، فيقال للميت العزيز كما قال مالك بن الريب :
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وقالت فاطمة بنت الأحجم :
إخوتي لا تبعدوا أبدا وبلى والله قد بعدوا
والأكثر أن يقال ( بعد ) بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت ، وبعد المضموم العين في البعد الحقيقي .
والقوم الظالمون هم الذين كفروا فغرقوا . والقائل ( بعدا ) قد يكون من قول الله جريا على طريقة قوله : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ، ويجوز أن يقوله [ ص: 80 ] المؤمنون تحقيرا للكفار وتشفيا منهم واستراحة ، فبني فعل ( وقيل ) إلى المجهول لعدم الحاجة إلى معرفة قائله .
قال في الكشاف بعد أن ذكر نكتا مما أتينا على أكثره " ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رءوسهم لا لتجانس الكلمتين ابلعي وأقلعي وإن كان لا يخلي الكلام من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور " اهـ .
وقد تصدى السكاكي في المفتاح في بحث البلاغة والفصاحة لبيان بعض خصائص البلاغة في هذه الآية ، تقفية على كلام الكشاف فيما نرى فقال :
" والنظر في هذه الآية من أربع جهات ، من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني . . . ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية . أما النظر فيها من جهة علم البيان . . . فنقول : إنه عز وجل لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها . . وأن نقطع طوفان السماء . . وأن نغيض الماء . . وأن نقضي أمر نوح - عليه السلام - وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه . . وأن نسوي السفينة على الجودي . . وأبقينا الظلمة غرقى بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور . . . وتشبيه تكوين المراد بالأمر . . وأن السماوات والأرض . . . تابعة لإرادته . . . كأنها عقلاء مميزون . . . ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا قيل على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد . . . فقال : يا أرض - ويا سماء . . . ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع . . للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات . . . تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابلعي . . . ثم أمر على [ ص: 81 ] سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء ، ثم قال ( ماءك ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا ( أقلعي ) لمثل ما تقدم في ابلعي ، ثم قال وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي . وقيل بعدا فلم يصرح بمن غاض الماء ، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال ( بعدا ) ، كما لم يصرح بقائل يا أرض و يا سماء في صدر الآية ، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب ، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا يا أرض و يا سماء ، ولا غائضا ما غاض ، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره .
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنما كانت لظلمهم . تكذيب الرسل
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النظر في إفادة كل كلمة فيها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، لذلك أنه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة . . وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به . . .
واختير ( ابلعي ) على ابتلعي لكونه أخصر ، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين ( أقلعي ) أوفر . وقيل ( ماءك ) بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت . . وإنما لم يقل ( ابلعي ) بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع [ ص: 82 ] للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء .
ثم إذ بين المراد اختصر الكلام مع ( أقلعي ) احترازا عن الحشو المستغنى عنه ، وهو الوجه في أن لم يقل : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت . . وكذا الأمر دون أن يقال : أمر نوح - عليه السلام - وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا - عليه السلام - من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك .
ثم قيل بعدا للقوم الظالمين دون أن يقال : ليبعد القوم ، طلبا للتأكيد مع الاختصار وهو نزول ( بعدا ) منزلة ليبعدوا بعدا ، مع فائدة أخرى وهي استعمال اللام مع ( بعدا ) الدال على معنى أن البعد يحق لهم .
ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل .
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قد قدم النداء على الأمر ، فقيل يا أرض ابلعي - ويا سماء أقلعي دون أن يقال : ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء ، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح .
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعها قوله : وغيض الماء لاتصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها ؛ ألا ترى أصل الكلام : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ، وغيض الماء النازل من السماء فغاض ، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله - تعالى : وقضي الأمر أي أنجز الموعود . . ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله : واستوت على الجودي ، ثم ختمت القصة بما ختمت . . .
[ ص: 83 ] وأما النظر فيها من جانب فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد . ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها . الفصاحة المعنوية
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات . . . " هذه نهاية كلام المفتاح .