موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع ، فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقوه ; فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها ، ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة وإن الساعة لآتية ، والمراد ساعة جزاء المكذبين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي ساعة البعث ، فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية ، وعلى الثاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر .
[ ص: 75 ] على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها ; لأهميته مع كونها مكملة لغيرها ، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة .
وتشمل السماوات والأرض وما بينهما أصناف المخلوقات من حيوان وجماد ، فشمل الأمم التي على الأرض وما حل بها ، وشمل الملائكة الموكلين بإنزال العذاب ، وشمل الحوادث الكونية التي حلت بالأمم من الزلازل والصواعق والكسف .
والباء في ( إلا بالحق ) للملابسة متعلقة بـ ( خلقنا ) ، أي خلقا ملابسا للحق ، ومقارنا له بحيث يكون الحق باديا في جميع أحوال المخلوقات .
والملابسة هنا عرفية; فقد يتأخر ظهور الحق عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخرا متفاوتا ، فالملابسة بين الخلق والحق تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحق وخفائه ، على أنه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دل عليه قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
والحق : هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشر ، والكمال والنقص ، والسمو والخفض ، في كل نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه ، وما يصلح هو له ، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات ، فإذا لاح ذلك الحق الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالأمر واضح ، وإذا لاح تخلف شيء عن مناسبة فبالتأمل والبحث يتضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة ، ثم لا يتبدل الحق آخر الأمر .
وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت ، فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها ، وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحق لها ، وهو من الحق أيضا فما كان إمهالها [ ص: 76 ] إلا حقا ، وما كان حلول العذاب بها إلا حقا عند حلول أسبابه ، وهو التمرد على أنبيائهم ، وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطل الجزاء في الدنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة .
وموقع جملة وإن الساعة لآتية في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال ، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحق ، وأيقن به علم أن الحق لا يتخلف عن مستحقه ولو غاب وتأخر ، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطل ظهور الحق في نصابه وتخلفه عن أربابه .
فعلم أن وراء هذا النظام نظاما مدخرا يتصل فيه الحق بكل مستحق إن خيرا وإن شرا ، فلا يحسبن من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعد عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقيها .
فلذلك أعقب الله وما خلقنا السماوات والأرض بآية وإن الساعة لآتية ، أي أن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم كما قال تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ، والمقصود من هذا تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم .
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حرية بالفصل وعدم العطف ; لأن حقها الاستئناف ، ولكنها عطفت ; لإبرازها في صورة الكلام المستقل اهتماما بمضمونها ، ولأنها تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من قومه ، وليصح تفريع أمره بالصفح عنهم في الدنيا ; لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر .
وفي ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقق بها مراد الله من بقاء هذا الدين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إياه وحمله إلى الأمم . إمهال الله تعالى المشركين
[ ص: 77 ] والمراد بالساعة ساعة البعث ، وذلك الذي افتتحت به السورة ، وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون في سورة الأحقاف .
وتفريع فاصفح الصفح الجميل على قوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق باعتبار المعنى الكنائي له ، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقيهم للدعوة .
والصفح : العفو ، وقد تقدم في قوله تعالى فاعف عنهم واصفح في سورة العقود ، وهو مستعمل هنا في لازمه ، وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدين ، وحذف متعلق الصفح لظهوره ، أي عمن كذبك وآذاك .
والجميل : الحسن ، والمراد الصفح الكامل .
ثم إن في هذه الآية ضربا من رد العجز على الصدر ، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجا الآيات ، وختمت بآية وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون إلى قوله تعالى وإن ربك هو يحشرهم .
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام ، وما فيه من العبر ، ثم إلى سوق قصص الأمم التي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ، ودلالته على البعث بقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآيات ، فجاءت على وزان قوله تعالى ولقد جعلنا في السماء بروجا الآيات ، فإن ذلك خلق بديع .
[ ص: 78 ] وزيد هنا أن ذلك خلق بالحق .
وكان قوله تعالى وإن الساعة لآتية فذلكة لقوله تعالى وإنا لنحن نحيي ونميت إلى وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه ، ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني الناظر إلى قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
وجملة إن ربك هو الخلاق العليم في موقع التعليل للأمر بالصفح عنهم ، أي لأن في الصفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك ، فمصلحة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في الصفح هي كمال أخلاقه ، ومصلحتهم في الصفح رجاء إيمانهم ، فالله الخلاق لكم ولهم ولنفسهم وأنفسهم ، العليم بما يأتيه كل منكم ، وهذا كقوله تعالى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون .
ومناسبته لقوله تعالى وإن الساعة لآتية ظاهرة .
وفي وصفه بـ ( الخلاق العليم ) إيماء إلى بشارة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنهم يكونون أولياء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والذين ولدوا ، كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : . لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده
وقال وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
دعاني داع غير نفسي وردنـي إلى الله من أطردته كل مطرد
يعني بالداعي النبيء - صلى الله عليه وسلم .وتلك هي نكتة ذكر وصف الخلاق دون غيره من الأسماء الحسنى .
[ ص: 79 ] والعدول إلى إن ربك دون ( إن الله ) للإشارة إلى أن الذي هو ربه ومدبر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلا ما فيه خيره .