والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون عود إلى إكثار الدلائل على انفراد الله بالتصرف ، وإلى تعداد النعم على البشر عطفا على جملة والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا بعدما فصل بين تعداد النعم بما اقتضاه الحال من التذكير والإنذار .
وقد اعتبر في هذه النعم ما فيها من لطف الله تعالى بالناس ; ليكون من ذلك التخلص إلى الدعوة إلى الإسلام وبيان أصول دعوة الإسلام في قوله تعالى كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون إلى آخره .
والمعنى : أنه كما أخرجكم من عدم ، وجعل فيكم الإدراك وما يتوقف عليه الإدراك من الحياة ، فكذلك ينشئكم يوم البعث بعد العدم .
وإذ كان هذا الصنع دليلا على إمكان البعث ، فهو أيضا باعث على شكر الله بتوحيده ، ونبذ الإشراك ، فإن الإنعام يبعث العاقل على الشكر .
[ ص: 232 ] وافتتاح الكلام باسم الجلالة ، وجعل الخبر عنه فعلا تقدم بيانه عند قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء والآيات بعده .
والإخراج : الإبراز من مكان إلى آخر .
والأمهات : جمع أم ، وقد تقدم عند قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم في سورة النساء .
والبطن : ما بين ضلوع الصدر إلى العانة ، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم .
وجملة لا تعلمون شيئا حال من الضمير في أخرجكم ، وذلك أن الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسه تنقل الأشياء تدريجا ، فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكر .
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل ، أي كونها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة ، كما دلت عليه مقابلته بقوله تعالى فقوله تعالى لا تعلمون شيئا ، أي فعلمتم أشياء .
ووجه إفراد السمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى أمن يملك السمع والأبصار في سورة يونس . وقوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم في سورة الأنعام .
والأفئدة : جمع الفؤاد ، وأصله القلب ، ويطلق كثيرا على العقل وهو المراد هنا ، فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيات ، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية .
فالمراد بالسمع : الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصماخ ، وبالإبصار : الإحساس المدرك للذوات الذي آلته الحدقة ، واقتصر عليهما من بين الحواس ; لأنهما أهم ; ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحق .
[ ص: 233 ] ثم ذكر بعدهما الأفئدة ، أي العقل مقر الإدراك كله ، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها ، وهي العلم بالتصورات المفردة .
وللعقل إدراك آخر ، وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر ، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيات : ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان ، وككون الكل أعظم من الجزء .
وإلى النظريات ، وتسمى الكسبيات ، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التفريق ، مثل أن يحضر في العقل : أن الجسم ما هو ، وأن المحدث بفتح الدال ما هو ، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث ، بل لا بد فيه من علوم أخرى سابقة ، وهي ما يدل على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفة الحدوث .
فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية ، وحصول هذه العلوم البديهية إنما يحصل عند حدوث تصور موضوعاتها ، وتصور محمولاتها ، وحدوث هذه التصورات إنما هو بسبب إعانة الحواس على جزئياتها ، فكانت الحواس الخمس هي السبب الأصلي لحدوث هذه العلوم ، وكان السمع والبصر أول الحواس تحصيلا للتصورات وأهمها .
وهذه العلوم نعمة من الله تعالى ولطف ; لأن بها إدراك الإنسان لما ينفعه ، وعمل عقله فيما يدله على الحقائق ; ليسلم من الخطأ المفضي إلى الهلاك والأرزاء العظيمة ، فهي نعمة كبرى ، ولذلك قال تعالى عقب ذكرها لعلكم تشكرون ، أي هي سبب لرجاء شكرهم واهبها سبحانه .
والكلام على معنى لعلكم تشكرون مضى غير مرة في نظيره ومماثله .