ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين عطف على جملة وإذا بدلنا آية مكان آية ، وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبسون به على عامتهم ، وذلك أن يقولوا : إن محمدا يتلقى القرآن من رجل من أهل مكة ، قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره ، قال عنه تعالى فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ، أي لا يلقنه ملك بل يعلمه إنسان ، وقد عينوه بما دل عليه قوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي .
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و ( قد ) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامتهم ، ولا يجرون به بين المسلمين ; لأنه باطل مكشوف ، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك ، فقد كان في مكة غلام رومي كان مولى لعامر بن الحضرمي ، اسمه ( جبر ) كان يصنع السيوف بمكة ، ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامة النصارى من دعوات الصلوات ، فاتخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة ، فإن معظم أهل مكة كانوا أميين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها - ولو محرفة - أو يكتب حروفا يتعلمها يحسبونه على علم ، وكان النبيء صلى الله عليه وسلم لما جانبه قومه ، وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمدا ما يقوله .
[ ص: 287 ] وقيل : كان غلام رومي اسمه ( بلعام ) كان عبدا بمكة لرجل من قريش ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام ، فقالوا : إن محمدا يتعلم منه ، وكان هذا العبد يقول : إنما يقف علي يعلمني الإسلام .
وظاهر الإفراد في إليه أن المقصود رجل واحد ، وقد قيل : المراد عبدان هما ( جبر ) ، ( ويسار ) كانا قنين ، فيكون المراد بـ ( بشر ) الجنس ، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده .
وقد كشف القرآن هذا اللبس هنا بأوضح كشف ؛ إذ قال قولا فصلا دون طول جدال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ، أي كيف يعلمه وهو أعجمي لا يكاد يبين ، وهذا . القرآن فصيح عربي معجز
والجملة جواب عن كلامهم ، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا ;لأن قولهم إنما يعلمه بشر يتضمن أنه ليس منزلا من عند الله فيسأل سائل : ماذا جواب قولهم ؟ فيقال لسان الذي إلخ ، وهذا النظم نظير نظم قوله تعالى قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
وألحد : مثل لحد ، أي مال عن القويم ، فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد ، كقولهم : أبان بمعنى بان . فمعنى يلحدون يميلون عن الحق ; لأن ذلك اختلاق معاذير ، فهم يتركون الحق القويم من أنه كلام منزل من الله إلى أن يقولوا يعلمه بشر فذلك ميل عن الحق ، وهو إلحاد .
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين ; لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ، وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير ، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعني بالبشر قالوا له : هو ( جبر ) أو ( بلعام ) ، وإذا توسموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا : هو بشر من الناس ، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميل على الاختيار ، وقرأ نافع والجمهور ( يلحدون ) بضم الياء مضارع ألحد ، وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء من لحد مرادف ألحد ، وقد تقدم الإلحاد في قوله [ ص: 288 ] تعالى والكسائي وذروا الذين يلحدون في أسمائه في سورة الأعراف ، وليست هذه الهمزة كقولهم : ألحد الميت ; لأن تلك للجعل ذا لحد .
واللسان : الكلام ، سمي الكلام باسم آلته ، والأعجمي : المنسوب إلى الأعجم ، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده ، ولذلك سموا الدواب العجماوات ، فالياء فيه ياء النسب ، ولما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف .
والمبين : اسم فاعل من أبان ، إذا صار ذا إبانة ، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة ، فحصل تمام التضاد بينه وبين لسان الذي يلحدون إليه .