عطف على ( ويدعو الإنسان بالشر ) إلخ ، والمناسبة أن جملة ( ويدعو الإنسان ) تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه ، وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه ; لأن لكل شيء أجلا ، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملا على ليل ونهار متقضيين ، وهذا شائع عند الناس في أن الزمان منقض ، وإن طال .
فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين ، وهو كونهما آيتين على وجود الصانع ، وعظيم القدرة ، وكونهما منتين على الناس ، وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته ، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم ، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان ، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة ، وهي نعمة السير في النهار ، واكتفى بعدها عن عد نعمة السكون في الليل ; لظهور ذلك بالمقابلة ، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب ; لأنه لو كان الزمن كله ظلمة أو كله نورا لم يحصل التمييز بين أجزائه .
وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكفر والإيمان ، وللضلال والهدى ، فلذلك عقب به قوله ( وآتينا موسى الكتاب ) الآية ، وقوله [ ص: 44 ] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم إلى قوله أعتدنا لهم عذابا أليما ، ولذلك عقب بقوله بعده من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه الآية ، وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن ، وإيجازه .
وتفريع جملة فمحونا آية الليل اعتراض وقع بالفاء بين جملة ( وجعلنا الليل والنهار ) وبين متعلقه وهو ( لتبتغوا ) .
وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية ، أي ( الآية ) التي هي الليل ، و ( الآية ) التي هي النهار ، ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له ، وهي القمر ، وآية النهار الشمس ، فتكون إعادة لفظ ( آية ) فيهما تنبيها على أن المراد بالآية معنى آخر ، وتكون الإضافة حقيقية ، ويصير دليلا آخر على بديع صنع الله تعالى ، وتذكيرا بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين ، ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ، ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كرته ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوءها سبب إبصار الناس الأشياء ، ف مبصرة اسم فاعل ( أبصر ) المتعدي ، أي جعل غيره باصرا ، وهذا أدق معنى ، وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة ، وعلما ; فإن هذه حقيقة من علم الهيئة ، وما أعيد لفظ ( آية ) إلا لأجلها .
والمحو : الطمس ، وأطلق على انعدام النور ; لأن النور يظهر الأشياء ، والظلمة لا تظهر فيها الأشياء ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله وجعلنا آية النهار مبصرة ، أي جعلنا الظلمة آية ، وجعلنا سبب الإبصار آية ، وأطلق وصف مبصرة على النهار على سبيل المجاز العقلي إسنادا للسبب .
وقوله لتبتغوا فضلا من ربكم علة لخصوص آية النهار من قوله آيتين .
وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصة دون ما يقابلها من حكمة الليل ;لأن المنة بها أوضح ، ولأن من التنبيه إليها يحصل التنبه [ ص: 45 ] إلى ضدها ، وهو حكمة السكون في الليل ، كما قال لتسكنوا فيه والنهار مبصرا كما تقدم في سورة يونس .
ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين ، وهي حكمة حساب السنين ، وهي في آية الليل أظهر ;لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي ، أي حساب القمر .
والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على عدد السنين من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماما به .
وجملة وكل شيء فصلناه تفصيلا تذييل لقوله وجعلنا الليل والنهار آيتين باعتبار ما سبق له من الإشارة إلى أن للشر والخير الموعود بهما أجلا ينتهيان إليه ، والمعنى : أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه ، فلا يقربه استعجال ، ولا يؤخره استبطاء ; لأن الله قد جعل لكل شيء قدرا لا إبهام فيه ولا شك عنده .
إن للخير وللشر مدى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فلا تحسبوا ذلك وعدا سدى
.والتفصيل : التبيين والتمييز ، وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع ; لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره ، وقد تقدم في قوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت صدر سورة هود .
والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها ، ونظامها ، وعلم الله بها ، وإعلامه بها ، فالتفصيل الذي في علم الله ، وفي خلقه ، ونواميس العوالم عام لكل شيء ، وهو مقتضى العموم هنا ، وأما ما فصله الله للناس من الأحكام ، والأخبار فذلك بعض الأشياء ، ومنه قوله تعالى يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وقوله قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ، وذلك بالتبليغ على ألسنة [ ص: 46 ] الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول ، ومن جملة ما فصله للناس ، والإرشاد إلى التوحيد ، وصالح الأعمال ، والإنذار على العصيان ، وفي هذا تعريض بالتهديد .
وانتصب ( كل شيء ) بفعل مضمر يفسره ( فصلناه ) لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف .