ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
اعتراض جاء بمناسبة العبرة والمنة على المشركين ، فاعترض بذكر نعمته على جميع الناس فأشبه التذييل ; لأنه ذكر به ما يشمل ما تقدم .
والمراد ببني آدم جميع النوع ، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو ، كما هو شأن الأحكام التي تسند إلى الجماعات .
وقد جمعت الآية خمس منن : التكريم ، وتسخير المراكب في البر ، وتسخير المراكب في البحر ، والرزق من الطيبات ، والتفضيل على كثير من المخلوقات .
[ ص: 165 ] فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية .
والتكريم : جعله كريما ، أي نفيسا غير مبذول ولا ذليل في صورته ، ولا في حركة مشيه وفي بشرته ، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ، ولا اللباس ، ولا ترفيه المضجع ، والمأكل ، ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ، ولا الاستعداد لما ينفعه ، ودفع ما يضره ، ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها ، بله الخلو عن المعارف والصنائع ، وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته ، وقد مثل للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه ، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه بل يرفعه إلى فيه بيده ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده ، فإن رفع الطعام بمغرفة ، والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم ، وهو تناول باليد . ابن عباس
والحمل : الوضع على المركب من الرواحل ، فالراكب محمول على المركوب ، وأصله في ركوب البر ، وذلك بأن سخر لهم الرواحل ، وألهمهم استعمالها .
وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة ، وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة ، قال تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ، ومعنى حمل الله الناس في البحر : إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف ، فجعل تيسير ذلك كالحمل .
وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعم ما يشاء مما يروق له ، وجعل في الطعوم أمارات على النفع ، وجعل ما يتناوله الإنسان من الطعومات أكثر جدا مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها ، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعا في تناول الطعوم .
[ ص: 166 ] وأما التفضيل على كثير من المخلوقات ، فالمراد به التفضيل المشاهد ; لأنه موضع الامتنان ، وذلك الذي جماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته ، وكفى بذلك تفضيلا على البقية .
والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص ; فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته ، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره ، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شئونه ، ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم ، هذا هو التفضيل المراد .
وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان ، وأنواع من الموجودات الخفي عنا كالملائكة والجن فليست هنا ، وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قبل الشريعة ، فلا تفرض هنا مسألة المختلف في تفاصيلها بيننا وبين المعتزلة ، وقد فرضها الزمخشري هنا على عادته من التحكك على أهل السنة والتعسف لإرغام القرآن على تأييد مذهبه ، وقد تجاوز حد الأدب في هذه المسألة في هذا المقام ، فاستوجب الغضاضة والملام . التفضيل بين البشر والملائكة
ولا شك أن إقحام لفظ كثير في قوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا مراد منه التقيد والاحتراز والتعليم الذي لا غرور فيه ، فيعلم منه أن ثم مخلوقات غير مفضل عليها بنو آدم تكون مساوية أو أفضل إجمالا أو تفصيلا ، وتبيينه يتلقى من الشريعة فيما بينته من ذلك ، وما سكتت فلا نبحث عنه .
والإتيان بالمفعول المطلق في قوله تفضيلا لإفادة ما في التنكير من التعظيم أي تفضيلا كبيرا .