[ ص: 178 ] وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا .
عطف على جملة وإن كادوا ليفتنونك تعدادا لسيئات أعمالهم ، والضمائر متحدة .
والاستفزاز : الحمل على الترحل ، وهو استفعال من ( فز ) بمعنى بارح المكان ، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازا ، أي خارجا من مكة ، وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله واستفزز من استطعت في هذه السورة ، والمعنى : كادوا أن يخرجوك من بلدك ، وذلك بأن هموا بأن يخرجوه كرها ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرا عن غير علم منهم ; لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يبقوه بينهم حتى يقتلوه .
والتعريف في الأرض تعريف العهد ، أي من أرضك وهي مكة .
وقوله ليخرجوك تعليل للاستفزاز ، أي استفزازا لقصد الإخراج .
والمراد بالإخراج : مفارقة المكان دون رجوع ، وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز ; لأن الاستفزاز أعم من الإخراج .
وجملة ( وإذا لا يلبثون خلافك ) عطف على جملة وإن كادوا ، أو هي اعتراض في آخر الكلام ، فتكون الواو للاعتراض و ( إذا ) ظرفا لقوله لا يلبثون وهي ( إذ ) الملازمة الإضافة إلى الجملة .
ويجوز أن يكون ( إذا ) حرف جواب ، وجزاء لكلام سابق ، وهي التي نونها حرف من الكلمة ، ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم [ ص: 179 ] المنون ، والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوبا ب ( أن ) مضمرة ، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه . ويجوز أن تكون ( إذا ) ظرفا للزمان ، وتنونيها عوضا عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة ، وهو غير بعيد ، ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادرا ; لانتفاء معنى التسبب ، ولأنها حينئذ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء .
والتقدير : وإذا أخرجوك ، أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلا .
وقرأ الجمهور ( خلفك ) ، و ( خلفك ) أريد به بعدك ، وأصل الخلف الوراء ، فاستعمل مجازا في البعدية ، أي لا يلبثون بعدك .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، ، والكسائي وحفص ، وخلف خلافك وهو لغة في خلف ، وتقدم عند قوله تعالى بمقعدهم خلاف رسول الله .
واللبث : الاستقرار في المكان ، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون ، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مهاجرا وكانوا السبب في خروجه فكأنهم أخرجوه ، كما تقدم عند قوله تعالى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم في سورة البقرة ، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلا ثم خرجوا إلى وقعة بدر ، فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا ، وحق عليهم الوعيد ، وأبقى الله عامتهم ودهماءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك .
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه ، أي المتسببين في خروجه ، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلا .
والسنة : العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها ، وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن ، أي عادة الله في كل [ ص: 180 ] رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده ، خرج هود من ديار عاد إلى مكة ، وخرج صالح من ديار ثمود ، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم ، فإضافة ( سنة ) إلى من قد أرسلنا لأدنى ملابسة ، أي سنتنا فيهم بدليل قوله ولا تجد لسنتنا تحويلا فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقية .
وانتصب سنة من قد أرسلنا على المفعولية المطلقة ، فإن كانت ( سنة ) اسم مصدر فهو بدل من فعله ، والتقدير : سننا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا ، أي لأجلهم ، فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع ، وإن كانت ( سنة ) اسما جامدا فانتصابه على الحال ; لتأويله بمعنى اشتقاقي .
وجملة سنة من قد أرسلنا مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلا ، وإنما سن الله هذه السنة لرسله ; لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حكمة الله تعالى ; لأن تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة ; لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب .
وجملة ولا تجد لسنتنا تحويلا اعتراض لتكملة البيان .
والمعنى : أن ذلك كائن لا محالة ; لأننا أجريناه على الأمم السالفة ، ولأن عادتنا لا تتحول .
والتعبير ب لا تجد مبالغة في الانتفاء كما في قوله ولا تجد أكثرهم شاكرين في سورة الأعراف .
والتحويل : تغيير الحال وهو التبديل ، ومن غريب التفسير أن المراد : أن اليهود قالوا للنبيء : الحق بأرض الشام فإنها أرض الأنبياء فصدق النبيء قولهم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه [ ص: 181 ] الآية ، وهي رواية باطلة ، وسبب غزوة تبوك معروف في كتب الحديث والسير ، ومن أجل هذه الرواية قال فريق : إن الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة .