بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب والترغيب والعكس ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته ، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم ; إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ، ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون ، موجها الخطاب إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له ، كقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم .
والوجه في نظم الآية أن يكون الغفور نعتا للمبتدأ ويكون ذو الرحمة هو الخبر ; لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة " لو يؤاخذهم " ، فيكون ذكر " الغفور " إدماجا في خلال المقصود ، فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم الغفور تعريضا بالترغيب في الاستغفار .
[ ص: 357 ] والغفور : اسم يتضمن مبالغة الغفران ; لأنه واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ، ويغفر ذنوبا لا تحصى ، إن جاءه عبده تائبا منكسرا ، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة .
وأما قوله ذو الرحمة فهو المقصود تمهيدا لجملة لو يؤاخذهم بما كسبوا ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة وربك الغفور ذو الرحمة باعتبار " الغفور " الخبر ، وهو الوصف الثاني .
والمعنى : أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة ، ولكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر ، وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك ، وإعادة النظر ، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا .
فوصف " ذو الرحمة " يساوي وصف ( الرحيم ) ; لأن ( ذو ) رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه .
وإنما عدل عن وصف الرحيم إلى " ذو الرحمة " للتنبيه على أنه لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب ، فإن اسم ( الرحيم ) صار شبيها بالأسماء الجامدة ، ; لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة ، فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه ، واقترب من صنف الصفة الذاتية .
و ( بل ) للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب ( لو ) ، أي لم يعجل لهم العذاب إذ لهم موعد للعذاب متأخر ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر .
والموئل : مفعل من ( وأل ) بمعنى لجأ ، فهو اسم مكان بمعنى الملجأ .
وأكد النفي بـ ( لن ) ردا على إنكارهم ، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدة طويلة ، أي ; لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وعده أو مكان وعده ، فهو ملجؤهم ، وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي هم غير مفلتين منه .