[ ص: 366 ] متوسط شيئين ، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفا للفعل ، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافة كما هنا ، ومنه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معموله ، أو بدون إضافة توسعا كقوله تعالى لقد تقطع بينكم في قراءة من قرأ برفع ( بينكم ) .
والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ; ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر ، كما تقدم في سياق الحديث ، والنسيان في قوله تعالى أو ننسها في سورة البقرة .
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله ; أباق هو في مكتله حينئذ ؟ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه هو الموضع الموقت لهما بتلك العلامة ، فلا يزيدا تعبا في المشي ، فإسناد النسيان إليهما حقيقة ; لأن يوشع - وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت - فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل ، فكان يهمه تعهده ومراقبته ، وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وكله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده ، ثم إن موسى عليه السلام نام ، وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت ، وجعل لنفسه طريقا في البحر .
والسرب : النفق ، والاتخاذ : الجعل ، وقد انتصب سربا على الحال من سبيله مرادا بالحال التشبيه ، كقول امرئ القيس :
إذا قامتا تضوع المسك منهما نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سربا في الحديث السابق عن . أبي بن كعبوحذف مفعول " جاوزا " للعلم ، أي : جاوزا مجمع البحرين .
والغداء : طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة ; لأنه يؤكل في وقت الغدوة ، وضده العشاء ، وهو طعام العشي ، والنصب التعب ، [ ص: 367 ] والصخرة : صخرة معهودة لهما ، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها ، وكانت في مجمع البحرين ، قيل : إن موضعها دون نهر ، يقال له نهر الزيت ; لكثرة ما عنده من شجر الزيتون .
وقوله " نسيت الحوت " أي نسيت حفظه وافتقاده ، أي : فانقلب في البحر .
وقوله وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، هذا نسيان آخر غير النسيان الأول ، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه .
وقرأ حفص عن عاصم وما أنسانيه بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة ، والكسر أشهر ; لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف .
و " أن أذكره " بدل اشتمال من ضمير " أنسانيه " لا من الحوت ، والمعنى : ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان ، فالذكر هنا ذكر اللسان .
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان : أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي ، وشدة عنايته بإخبار نبيه به ، ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان يسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين ، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة ، فهو يصرف عنها ، ولو بتأخير وقوعها طمعا في حدوث العوائق .
وجملة واتخذ سبيله في البحر عطف على جملة " فإني نسيت الحوت " وهي بقية كلام فتى موسى ، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر ، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتا زمنا طويلا .
وقوله " عجبا " جملة مستأنفة ، وهي من حكاية قول الفتى ، أي أعجب له عجبا ، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله .