[ ص: 215 ] ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له .
جملة ( ولقد مننا عليك ) معطوفة على جملة ( قد أوتيت سؤلك ) لأن جملة ( قد أوتيت سؤلك ) تتضمن منة عليه ، فعطف عليها تذكير بمنة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنه لما كان بمحل العناية من ربه من أول أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعد سؤاله أحرى ، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة ، فالكرم يقتضي أن . فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيدا في سائر أحواله المستقبلة ، كقوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ( الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ) .
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد لتحقيق الخبر ، لأن موسى - عليه السلام - قد علم ذلك ، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه ، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى ( قد أوتيت سؤلك ) .
والمرة : فعلة من المرور ، غلبت على معنى الفعلة الواحدة من عمل معين يعرف بإضافة أو بدلالة المقام . وقد تقدمت عند قوله تعالى ( وهم بدءوكم أول مرة ) في سورة " براءة " . وانتصاب " مرة " هنا على المفعولية المطلقة لفعل ( مننا ) ، أي مرة من المن . ووصفها ب " أخرى " هنا باعتبار أنها غير هذه المنة .
[ ص: 216 ] و ( إذ ) ظرف للمنة .
، هنا : وحي الإلهام الصادق . وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى . وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق . والوحي
و " ما يوحى " موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها . ومفيد تأكيد كونه إلهاما من قبل الحق .
و ( أن ) تفسير لفعل أوحينا لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ل " يوحى " .
والقذف : أصله الرمي ، وأطلق هنا على الوضع في التابوت . تمثيلا لهيئة المخفي عمله . فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجرا ونحوه .
والتابوت : الصندوق . وتقدم عند قوله تعالى ( إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) في سورة " البقرة " .
واليم : البحر ، والمراد به نهر النيل .
والساحل : الشاطئ ، ولام الأمر في قوله فليلقه دالة على أمر التكوين ، أي سخرنا اليم لأن يلقيه بالساحل ، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد ، والمراد ساحل معهود ، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة .
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنه المقصود وهو حاضر في ذهن أمه الموحى إليها ، وقذفه في التابوت وفي اليم وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلقة بضميره ، [ ص: 217 ] إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشرا أو في ضمن غيره ، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة . ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك .
وجزم ( يأخذه ) في جواب الأمر على طريقة جزم قوله ( يفقهوا قولي ) المتقدم آنفا .
والعدو : فرعون ، فهو عدو الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية ، وعدو موسى تقديرا في المستقبل ، وهو عدوه لو علم أنه من غلمان إسرائيل ؛ لأنه اعتزم على قتل أبنائهم .