لم يزد موسى في عقاب السامري على أن خلعه من الأمة ، إما لأنه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأن موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مثل الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين ، وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم أما إنه من أهل النار محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكان النبيء - عليه الصلاة والسلام - أعلم ببعضهم . فقوله : " فاذهب " الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : حذيفة بن اليمان قال اذهب فمن تبعك [ ص: 298 ] منهم فإن جهنم جزاؤكم ، وكقول الشاعر مما أنشده في كتابه ولم يعزه : سيبويه
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما وبك والأيام من عجب
ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله ، كقول النبهاني من شعراء الحماسة :
فإن كنت سيدنا سدتنا وإن كنت للخال فاذهب فخل
أما قوله : فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حظه في حياته أن يقول : لا مساس ، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا ، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس ، عائشا وحده ، لا يترك أحدا يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب ، كقوله : ولا تمسوها بسوء ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي : مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية .
" ومساس " بكسر الميم في قراءة جميع القراء ، وهو مصدر ماسه بمعنى مسه ، و " لا " نافية للجنس ، و " مساس " اسمها مبني على الفتح . وقوله : وإن لك موعدا اللام في " لك " استعارة تهكمية ، كقوله تعالى وإن أسأتم فلها أي فعليها . وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعدا له ، أي موعد الحشر والعذاب ، فالموعد مصدر ، أي وعد لا يخلف وعد الله لا يخلف الله وعده . وهنا توعد بعذاب الآخرة .
وقرأ الجمهور " لن تخلفه " بفتح اللام مبنيا للمجهول ؛ للعلم بفاعله وهو الله تعالى ، أي لا يؤخره الله عنك ، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد .
[ ص: 299 ] وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بكسر اللام ، مضارع أخلف ، وهمزته للوجدان . يقال : أخلف الوعد ، إذا وجده مخلفا ، وإما على جعل السامري هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه ، وذلك على طريق التهكم تبعا للتهكم الذي أفاده لام الملك .
وبعد أن أوعد موسى السامري بين له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهية ؛ لأنه للامتهان والعجز ، فقال : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا . فجعل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بين لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة ؛ فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات . وأضاف الإله إلى ضمير السامري تهكما بالسامري وتحقيرا له ، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية ؛ لما تدل عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه .
وقوله : " ظلت " بفتح الظاء في القراءات المشهورة ، وأصله : ظللت ، حذفت منه اللام الأولى تخفيفا من توالي اللامين ، وهو حذف نادر عند ، وعند غيره هو قياس . وفعل " ظل " من أخوات " كان " ، وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النهار ، وهو هنا مجاز في معنى دام بعلاقة الإطلاق بناء على أن غالب الأعمال يكون في النهار . سيبويه
والعكوف : ملازمة العبادة ، وتقدم آنفا .
وتقديم المجرور في قوله : عليه عاكفا للتخصيص ، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره ، أي دون الله تعالى .
[ ص: 300 ] وقرأ الجمهور " لنحرقنه " بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة . والتحريق : الإحراق الشديد ، أي لنحرقنه إحراقا لا يدع له شكلا . وأراد به أن يذيبه بالنار حتى يفسد شكله ويصير قطعا .
وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر " لنحرقنه " بضم النون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء . وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء ؛ لأنه يقال : أحرقه وحرقه .
والنسف : تفريق وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب . وأراد باليم البحر الأحمر المسمى بحر القلزم ، والمسمى في التوراة : بحر سوف ، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور .
و " ثم " للتراخي الرتبي ؛ لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له . وأكد " ننسفنه " بالمفعول المطلق ؛ إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ، ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنه إله .