وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين
عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى . فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو [ ص: 50 ] اعتقادهم أن الله اتخذ ولدا ، وقد كانت خزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعض من قريش وغيرهم من العرب . وقد تقدم عند قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه في سورة النحل .
والولد اسم جمع مفرده مثله ، أي اتخذ أولادا ، والولد يشمل الذكر والأنثى ، والذين قالوا اتخذ الله ولدا أرادوا أنه اتخذ بنات ، قال تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ، ولما كان اتخاذ الولد نقصا في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة " سبحانه " تنزيها له عن ذلك ، فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى في سورة يونس : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني ، ولما كان المراد من قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا أنهم زعموا الملائكة بنات الله تعالى - أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عباد دون ذكر المبتدأ للعلم به . والتقدير : بل ، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين ، وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين . الملائكة عباد مكرمون
والسبق ، حقيقته : التقدم في السير على سائر آخر ، وقد شاع إطلاقه مجازا على التقدم في كل عمل . ومنه السبق في القول ، أي التكلم قبل الغير كما في هذه الآية . ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة ، أي كناية عن التعظيم والتوقير ، ونظيره في ذلك النهي عن التقدم في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله فإن التقدم في معنى السبق; فقوله تعالى : لا يسبقونه بالقول وهم معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله ، أي لا يقولون إلا ما أذن لهم إلا أن يقولوه . وهذا عام يدخل فيه [ ص: 51 ] الرد على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح بنفيه . وتقديم " بأمره " على " يعملون " لإفادة القصر ، أي لا يعملون عملا إلا عن أمر الله تعالى ، فكما أنهم لا يقولون قولا لم يأذن فيه ، كذلك لا يعملون عملا إلا بأمره . وقوله تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم تقدم نظيره في سورة البقرة .
وقوله تعالى : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى : لا يسبقونه بالقول اهتماما بشأنه ؛ لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله .
وحذف مفعول " ارتضى " ؛ لأنه عائد صلة منصوب بفعل ، والتقدير : لمن ارتضاه ، أي ارتضى الشفاعة له بأن يأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض ، كما قال تعالى : والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض في سورة الشورى . وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله ، فليس هو من التقدم بالقول .
ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريرا بقوله تعالى : وهم من خشيته مشفقون ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره .
و " من " في قوله تعالى : " من خشيته " للتعليل ، والمجرور ظرف مستقر ، وهو حال من المبتدأ . و " مشفقون " خبر ، أي وهم لأجل خشيته ، أي خشيتهم إياه .
[ ص: 52 ] والإشفاق : توقع المكروه والحذر منه .
والشرط الذي في قوله تعالى : ومن يقل منهم إني إله من دونه إلخ شرط على سبيل الفرض ، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم . فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادعو لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه ، وأنهم ادعو ما يوجب لقائله نار جهنم على حد ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك .
وعدل عن " إن " الشرطية إلى " من " الشرطية للدلالة على العموم مع الإيجاز . وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته ؛ للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط ، وفي هذا - عليه السلام - وأنهم يقولون عليه ما لم يقله . ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى : إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى كذلك نجزي الظالمين أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكا . والظلم : الشرك .