وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما
شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا . وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه ، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب الماثل للقرآن وما عقب ذلك . ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون . ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت شمشون إلى قيام شاول حمي داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند [ ص: 115 ] ولم يكن نبيئا ، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل صمويل .
فداود في أنبياء أول من جمعت له النبوءة والملك بني إسرائيل . وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداد . وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة ، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام .
وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتهما مثل . وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف ؛ سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم .
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون ( داود ) عطفا على ( نوحا ) في قوله ( ونوحا ) ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان . . . إلى آخره ، فـ ( إذ يحكمان ) متعلق بـ ( آتينا ) المحذوف ، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعملهما .
والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة . والعلم : أصالة الفهم . ( وإذ نفشت ) متعلق بـ ( يحكمان ) .
فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء ، والجمع بين المصالح والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد ، [ ص: 116 ] واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق . فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل .
وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس ، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء . فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم ، والآخر راعي غنم لجماعة ، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث ، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقص أمرهما على سليمان ، فقال : لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا . فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له : بماذا كنت تقضي ؟ قال : إني رأيت ما هو أرفق بالجميع . قال : وما هو ؟ قال : أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه ، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له . فقال داود : وفقت يا بني . وقضى بينهما بذلك .
فمعنى نفشت فيه دخلته ليلا ، قالوا : والنفش الانفلات للرعي ليلا . وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى غنم القوم . وكذلك كان الحرث شركة بين أناس . كما يؤخذ مما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية . وهو ظاهر تقرير الكشاف . وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث . ابن أبي حاتم
[ ص: 117 ] واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله وكنا لحكمهم شاهدين أي عالمين وقوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد ، إذ إن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان ، فذلك من القضاء بالاجتهاد ، وهو جار على القول الصحيح من جواز ولنبيئنا - صلى الله عليه وسلم - ووقوعه في مختلف المسائل . الاجتهاد للأنبياء
وقد كان داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم ، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا . وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي . قضاء
وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين ، فهو يشبه الصلح . ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب ، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف ، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب . ونظير ذلك قضاء على عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من ( العريض ) على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك لمحمد بن مسلمة نافع ؟ فقال محمد : لا والله ، فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك ، ففعل الضحاك . وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما ، فكان قضاء سليمان أرجح .
وتشبه هذه القضية الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرة إذ قضى أول مرة بأن [ ص: 118 ] يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره ، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ، فاستوفى للزبير حقه . وإنما ابتدأ النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضي بينهما بالفصل ، فكان قضاء النبيء مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان . قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين
فمعنى قوله تعالى ففهمناها سليمان أنه ألهمه وجها آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق . وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان . وحسبك أنه الموافق لقضاء النبيء في قضية الزبير . وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة .
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما في معرض الثناء عليهما .
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في كما قال رجوع الحاكم عن حكمه ، ابن عطية وابن العربي ; إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة . وإضافة ( حكم ) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين . وتأنيث الضمير في قوله ( ففهمناها ) ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى ( لحكمهم ) بمعنى الحكومة أو الخصومة . [ ص: 119 ] وجملة وكلا آتينا حكما وعلما تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب .
وتقدمت ترجمة داود - عليه السلام - عند قوله تعالى وآتينا داود زبورا في سورة النساء ، وقوله تعالى ومن ذريته داود في سورة الأنعام .
وتقدمت ترجمة سليمان - عليه السلام - عند قوله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان في سورة البقرة .