وامتن الله بصنعة علمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع ، أي دروع السرد . قيل كانت الدروع من قبل داود ذات [ ص: 121 ] حراشف من الحديد ، فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية .
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا ، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد . واشتهر عند العرب ، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله :
شم العرانين أبطال لبـوسـهـم من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلـق
كأنها حلق القفعـاء مـجـدول
وكانت الدروع التبعية مشهورة عند العرب فلعل تبعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف ، وقد جمعها النابغة بقوله :
وكل صموت نثلة تبـعـية ونسج سليم كل قمصاء ذائل
أراد بسليم ترخيم سليمان ، يعني سليمان بن داود ، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها .
و " اللبوس " بفتح اللام أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول . وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد ، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب . وقال ابن عطية : اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي .
ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل
[ ص: 122 ] وقرأ الجمهور ( ليحصنكم ) بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ لبوس . وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي . وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى ( لبوس ) بالدرع ، وهي مؤنثة . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ( لنحصنكم ) بالنون . وضمائر الخطاب في ( لكم ، ليحصنكم ، من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون ) موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى قبل ذلك وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره .
والإحصان : الوقاية والحماية . والبأس : الحرب .
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى فهل أنتم شاكرون مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنى به عن الأمر بالشكر . وكان العدول عن إيلاء ( هل ) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن لـ ( هل ) مزيد اختصاص بالفعل ، فلم يقل : فهل تشكرون ، وعدل إلى فهل أنتم شاكرون ليدل العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار ، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تكرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة ، نظير قوله تعالى فهل أنتم منتهون في آية تحريم الخمر .