عطف على داود وسليمان أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه . وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختص به من الصبر حتى كان مثلا فيه . وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام .
[ ص: 126 ] وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيئين الإسرائيلية . وحاصلها أنه كان نبيئا وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة ، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها ، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد ، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم . ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر ، وتلقى رثاء أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله ، وأوحى الله إليه بمواعظ ، ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالا أكثر من ماله وولدت له زوجه أولادا وبنات بعدد من هلكوا له من قبل . وقد ذكرت قصته بأبسط من هنا في سورة ص . ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوءة .
و ( إذ ) ظرف قيد به إيتاء أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة . وتقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى ونوحا إذ نادى من قبل فصار أيوب مضرب المثل في الصبر . وقوله أني مسني الضر بفتح الهمزة على تقدير باء الجر ، أي نادى ربه بأن مسني الضر .
والمس : الإصابة الخفيفة . والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف .
والضر : بضم الضاد ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزل ، أو في ماله من نقص ونحوه . [ ص: 127 ] وفي قوله تعالى وأنت أرحم الراحمين التعريض بطلب كشف الضر عنه بدون سؤال فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له ، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله ، كما قال : أمية بن أبي الصلت
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه عن تعرضه الثناء
وكون لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه ، وأما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية ، ولكون ثناء الله تعالى أرحم الراحمين أيوب تعريضا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر . والسين والتاء للمبالغة في الإجابة ، أي استجبنا دعوته العرضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضر ، إشارة إلى سرعة كشف الضر عنه ، والتعقيب في كل شيء بحسبه . وهو ما تقتضيه العادة في البرء وحصول الرزق وولادة الأولاد .
والكشف : مستعمل في الإزالة السريعة . شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة .
والموصول في قوله تعالى ما به من ضر مقصود منه الإبهام . ثم تفسيره بـ ( من ) البيانية لقصد تهويل ذلك الضر لكثرة أنواعه بحيث يطول عدها . ومثله قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله إشارة إلى تكثيرها . ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضر وينسون شكره على عظيم النعم ، أي كشفنا ما حل به من ضر في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته .
[ ص: 128 ] والإيتاء : عطاء ، أي أعطيناه أهله ، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته . وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل ، يعني بموت أولاده وبناته ، وهو على تقدير مضاف بين من السياق ، أي مثل أهله بأن رزق أولادا بعدد ما فقد ، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سن العقم .
وانتصب ( رحمة ) على المفعول لأجله . ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويها بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل . والمراد رحمة بأيوب إذ قال وأنت أرحم الراحمين .
والذكرى : التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه . وهو معطوف على رحمة فهو مفعول لأجله ، أي وتنبيها للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم . وبما في ( العابدين ) من العموم صارت الجملة تذييلا .