nindex.php?page=treesubj&link=28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات nindex.php?page=treesubj&link=27079حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا ؛ إذ منها يتكون المجتمع ، وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر ، وافتتحت بـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183يا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده .
والقول في معنى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كتب عليكم ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية .
والصيام ، ويقال
nindex.php?page=treesubj&link=2329الصوم : هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله .
[ ص: 155 ] والصيام اسم منقول من مصدر فعال ، وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء ؛ لم يكن صياما كما قال
العرجي :
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول
النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال
لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب :
حتى إذا سلخا جمادى ستة جزءا فطال صيامه وصيامها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة ، فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من
اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره .
وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي - لا يصح ؛ لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في الأساس وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول
أم عيسى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=26فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل .
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ؛ أي : كتب عليكم جنس الصيام المعروف . وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن
عائشة قالت : كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وفي بعض الروايات قولها
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341215وكان رسول الله يصومه ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=10341216لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : يوم نجى الله فيه موسى ، فنحن نصومه ، فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد
اليهود من صومه ، لا تعرف أصل صومه ، وفي حديث
عائشة : فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة ، وقال رسول الله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341217من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه فوجب
nindex.php?page=treesubj&link=2547صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن
[ ص: 156 ] فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187فالآن باشروهن إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الآية ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، وبهذا يتبين أن في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كتب عليكم الصيام إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده .
فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام
اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة . فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كما كتب على الذين من قبلكم تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات ، والتشبيه يكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة ، وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه :
أحدها : الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها ؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها ، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كيلا يتميز بها من كان قبلهم .
إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341218أن ناسا من أصحاب رسول الله قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم الحديث ، ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=157أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة .
فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم ، وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه
باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
والغرض الثاني : أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا
[ ص: 157 ] هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين ، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام ، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات .
والغرض الثالث : إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض ، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة .
ووقع
nindex.php?page=showalam&ids=12815لأبي بكر بن العربي في العارضة قوله : كان من قول
مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كما كتب على الذين من قبلكم وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم .
فهذه الآية شرعت
nindex.php?page=treesubj&link=27079وجوب صيام رمضان ، لأن فعل " كتب " يدل على الوجوب ، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم ، فيكون صوم عاشوراء تقدم عاما ، ثم فرض رمضان في العام الذي يليه ، وفي الصحيح :
أن النبيء صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات ، فلا شك أنه صام
nindex.php?page=treesubj&link=2335أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ، ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة .
والمراد بـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183الذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع ، وهم أهل الكتاب - أعني
اليهود - لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في
المدينة ، وكان
لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم ، وهو الشهر المسمى عندهم ( تسري ) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ، ويسمونه ( كبور ) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى ، وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس ، وصوم يوم ( بوريم ) تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم
أحشويروش في واقعة ( استير ) وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341219nindex.php?page=treesubj&link=2548_31962أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ، أما
النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم
اليهود ، وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=10341220قالوا : يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء
بالمسيح ، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته ،
[ ص: 158 ] ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183لعلكم تتقون nindex.php?page=treesubj&link=2334بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لـ ( كتب ) و " لعل " إما مستعارة لمعنى " كي " استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله في إرادته من تشريع الصوم التقوى ، بحال المترجي من غيره فعلا ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي ؛ لأن المعاصي قسمان ؛ قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب ، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية .
وفي الحديث الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341221الصوم جنة أي : وقاية ، ولما ترك ذكر متعلق ( جنة ) تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات ؛ وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات ظرف للصيام مثل قولك : الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين " الصيام " وبين " أياما " ، وهو قوله : ( كما كتب ) إلى ( تتقون ) لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من " لعل " كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه ، وهو قوله " صيام " ، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو ( كتب ) فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ، ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري والرضي ، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة .
والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها ، وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية
[ ص: 159 ] في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية . وتطغيان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ؛ لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى .
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل ، أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه ، وكان نقصانه يقتر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ، ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حظ له في الحيوانية إلا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام ، قيل في هياكل النور : النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف ، فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات
[ ص: 160 ] أو الألبان ، وكان حكماء
اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ، ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده ، فتكون هي زنة طعام كل يوم .
وفي حكمة الإشراق
للسهروردي : " وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله " ا هـ .
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها ، فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض ؛ لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته .
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ، ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة .
[ ص: 161 ] قلت : شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها ، فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية ، وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم ، وهذا يدخل تحت قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
nindex.php?page=treesubj&link=2333_28973والمراد بالأيام من قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ، ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر ، قال
أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185من أيام أخر : صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80إلا أياما معدودة وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة ، وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا ، وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا ؛ لأن الجمع قد أول بالجماعة ، والجماعة كلمة مفردة ، وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ؛ ليكون في معنى الجماعات ، وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ، ولأجل هذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة لأنهم يقللونها غرورا أو تغريرا ، وقال هنا : معدودات ؛ لأنها ثلاثون يوما ، وقال في الآية الآتية :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الحج أشهر معلومات وهذا مثل قوله في جمع جمل جمالات على أحد التفسيرين ، وهو أكثر من جمال ، وعن
المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرت ا هـ . وهو غير ظاهر .
وقيل : المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض
[ ص: 162 ] الصيام بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أياما معدودات ثم نسخ صومها بصوم رمضان ، وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، وإليه ذهب
معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء ، كما في الصحيح وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341222أفلح إن صدق .
nindex.php?page=treesubj&link=28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ nindex.php?page=treesubj&link=27079حُكْمُ الصِّيَامِ حُكْمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمَّةِ ، وَهُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الرَّامِيَةِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ حَالِ الْأَفْرَادِ فَرْدًا فَرْدًا ؛ إِذْ مِنْهَا يَتَكَوَّنُ الْمُجْتَمَعُ ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنْ سَابِقَتِهَا لِلِانْتِقَالِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ ، وَافْتُتِحَتْ بِـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِمَا سَيُقَالُ بَعْدَهُ .
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كُتِبَ عَلَيْكُمُ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْوُجُوبِ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ الْآيَةَ .
وَالصِّيَامُ ، وَيُقَالُ
nindex.php?page=treesubj&link=2329الصَّوْمُ : هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ : اسْمٌ لِتَرْكِ جَمِيعِ الْأَكْلِ وَجَمِيعِ الشُّرْبِ وَقُرْبَانِ النِّسَاءِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِنَذْرٍ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ .
[ ص: 155 ] وَالصِّيَامُ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ فَعَّالٍ ، وَعَيْنُهُ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِأَجْلِ كَسْرَةِ فَاءِ الْكَلِمَةِ ، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ الصَّوْمُ ، وَقَدْ وَرَدَ الْمَصْدَرَانِ فِي الْقُرْآنِ ، فَلَا يُطْلَقُ الصِّيَامُ حَقِيقَةً فِي اللُّغَةِ إِلَّا عَلَى تَرْكِ كُلِّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، وَأُلْحِقَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ قُرْبَانِ كُلِّ النِّسَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَ أَحَدٌ بَعْضَ أَصْنَافِ الْمَأْكُولِ أَوْ بَعْضَ النِّسَاءِ ؛ لَمْ يَكُنْ صِيَامًا كَمَا قَالَ
الْعَرْجِيُّ :
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
وَلِلصِّيَامِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى مَجَازِيَّةٌ كَإِطْلَاقِهِ عَلَى إِمْسَاكِ الْخَيْلِ عَنِ الْجَرْيِ فِي قَوْلِ
النَّابِغَةِ :
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وَأُطْلِقَ عَلَى تَرْكِ شُرْبِ حِمَارِ الْوَحْشِ الْمَاءَ ، وَقَالَ
لَبِيَدٌ يَصِفُ حِمَارَ الْوَحْشِ وَأَتَانَهُ فِي إِثْرِ فَصْلِ الشِّتَاءِ حَيْثُ لَا تَشْرَبُ الْحُمُرُ مَاءً لِاجْتِزَائِهَا بِالْمَرْعَى الرَّطْبِ :
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً جَزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الصَّوْمِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ ، فَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ الصَّوْمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ
الْيَهُودِ فِي صَوْمِهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ .
وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ : إِنَّ الصَّوْمَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ وَإِنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنِ الشَّهْوَتَيْنِ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ - لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ وَغَيْرِهِ ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الصَّوْمِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ
أُمِّ عِيسَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=26فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَلَيْسَ إِطْلَاقًا لِلصَّوْمِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ يَتْبَعُهُ تَرْكُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ .
فَالتَّعْرِيفُ فِي الصِّيَامِ فِي الْآيَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ ؛ أَيْ : كُتِبَ عَلَيْكُمْ جِنْسُ الصِّيَامِ الْمَعْرُوفِ . وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ الصَّوْمَ ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341215وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُهُ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=10341216لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصَوْمِهِ فَمَعْنَى سُؤَالِهِ هُوَ السُّؤَالُ عَنْ مَقْصِدِ
الْيَهُودِ مِنْ صَوْمِهِ ، لَا تَعْرِفُ أَصْلَ صَوْمِهِ ، وَفِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ : فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341217مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ فَوَجَبَ
nindex.php?page=treesubj&link=2547صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ
[ ص: 156 ] فَالْمَأْمُورُ بِهِ صَوْمٌ مَعْرُوفٌ زِيدَتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا قُيُودُ تَحْدِيدِ أَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الْآيَةِ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إِجْمَالًا وَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ .
فَحَصَلَ فِي صِيَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُ صِيَامَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُيُودِ مَاهِيَّةِ الصِّيَامِ وَكَيْفِيَّتِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ صِيَامُنَا مُمَاثِلًا لِصِيَامِهِمْ تَمَامَ الْمُمَاثَلَةِ . فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَشْبِيهٌ فِي أَصْلِ فَرْضِ مَاهِيَّةِ الصَّوْمِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ ، وَالتَّشْبِيهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ وُجُوهِ الْمُشَابَهَةِ ، وَهُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُرَادُ فِي الْقَصْدِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ الْحَوَالَةَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَلَكِنَّ فِيهِ أَغْرَاضًا ثَلَاثَةً تَضَمَّنَهَا التَّشْبِيهُ :
أَحَدُهَا : الِاهْتِمَامُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ ، وَالتَّنْوِيهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا شَرَعَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانُوا قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ ، وَشَرَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّرَادَ صَلَاحِهَا وَوَفْرَةَ ثَوَابِهَا ، وَإِنْهَاضَ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَيْلَا يَتَمَيَّزَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ .
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341218أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمُ الْحَدِيثَ ، وَيُحِبُّونَ التَّفْضِيلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَطْعَ تَفَاخُرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ شَرِيعَةٍ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=157أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ .
فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَغْتَبِطُونَ أَمْرَ الصَّوْمِ ، وَقَدْ كَانَ صَوْمُهُمُ الَّذِي صَامُوهُ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ إِنَّمَا اقْتَدَوْا فِيهِ
بِالْيَهُودِ ، فَهُمْ فِي تَرَقُّبٍ إِلَى تَخْصِيصِهِمْ مِنَ اللَّهِ بِصَوْمٍ أُنُفٍ ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ التَّشْبِيهِ لِأَهْلِ الْهِمَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ أَلْحَقَهُمُ اللَّهُ بِصَالِحِ الْأُمَمِ فِي الشَّرَائِعِ الْعَائِدَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ .
وَالْغَرَضُ الثَّانِي : أَنَّ فِي التَّشْبِيهِ بِالسَّابِقِينَ تَهْوِينًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَسْتَثْقِلُوا
[ ص: 157 ] هَذَا الصَّوْمَ ؛ فَإِنَّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْغَيْرِ أُسْوَةً فِي الْمَصَاعِبِ ، فَهَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ قَدْ يَسْتَعْظِمُ الصَّوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَيَمْنَعُهُ وُجُودُهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَلِمَنْ يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى الضِّمْنِيَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ .
وَالْغَرَضُ الثَّالِثُ : إِثَارَةُ الْعَزَائِمِ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُقَصِّرِينَ فِي قَبُولِ هَذَا الْفَرْضِ ، بَلْ لِيَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ تَفُوقُ مَا أَدَّى بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ .
وَوَقَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ قَوْلُهُ : كَانَ مِنْ قَوْلِ
مَالِكٍ فِي كَيْفِيَّةِ صِيَامِنَا أَنَّهُ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ مَنْ قَبْلَنَا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِيهِ بَحْثٌ سَنَتَعَرَّضُ لَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ .
فَهَذِهِ الْآيَةُ شَرَعَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=27079وُجُوبَ صِيَامِ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ فِعْلَ " كُتِبَ " يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ تَقَدَّمَ عَامًا ، ثُمَّ فُرِضَ رَمَضَانُ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ ، وَفِي الصَّحِيحِ :
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَامَ
nindex.php?page=treesubj&link=2335أَوَّلَ رَمَضَانَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ قَدْ فُرِضَ عَامًا فَقَطْ وَهُوَ أَوَّلُ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ .
وَالْمُرَادُ بِـ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَعْنِي
الْيَهُودَ - لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْمُخَاطَبُونَ وَيَعْرِفُونَ ظَاهِرَ شِئُونِهِمْ وَكَانُوا عَلَى اخْتِلَاطٍ بِهِمْ فِي
الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ
لِلْيَهُودِ صَوْمٌ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ سَنَتِهِمْ ، وَهُوَ الشَّهْرُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ ( تِسْرِي ) يَبْتَدِئُ الصَّوْمُ مِنْ غُرُوبِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ إِلَى غُرُوبِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَهُوَ يَوْمُ كَفَّارَةِ الْخَطَايَا ، وَيُسَمُّونَهُ ( كَبُّورَ ) ثُمَّ إِنَّ أَحْبَارَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنَ الْأَشْهُرِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّابِعِ وَالْعَاشِرِ مِنْ سَنَتِهِمْ تِذْكَارًا لِوَقَائِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَصَوْمَ يَوْمِ ( بُورِيمْ ) تِذْكَارًا لِنَجَاتِهِمْ مِنْ غَصْبِ مَلِكِ الْأَعَاجِمِ
أَحْشُويُرُوشَ فِي وَاقِعَةِ ( اسْتِيرَ ) وَعِنْدَهُمْ صَوْمُ التَّطَوُّعِ ، وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341219nindex.php?page=treesubj&link=2548_31962أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ، أَمَّا
النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ نَصٌّ عَلَى تَشْرِيعِ صَوْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ صَوْمَ
الْيَهُودِ ، وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=10341220قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ثُمَّ إِنَّ رُهْبَانَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِدَاءً
بِالْمَسِيحِ ، إِذْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ ،
[ ص: 158 ] وَيُشْرَعُ عِنْدَهُمْ نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَرْكُ الْأَقْوَاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْمَشْرُوبَاتِ ، أَوْ هُوَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ أَكْلَةٌ خَفِيفَةٌ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ nindex.php?page=treesubj&link=2334بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيَامِ وَمَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِـ ( كُتِبَ ) وَ " لَعَلَّ " إِمَّا مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى " كَيِ " اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً ، وَإِمَّا تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ شَأْنِ اللَّهِ فِي إِرَادَتِهِ مِنْ تَشْرِيعِ الصَّوْمِ التَّقْوَى ، بِحَالِ الْمُتَرَجِّي مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا مَا ، وَالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي ، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّيَامُ مُوجِبًا لِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمَانِ ؛ قِسْمٌ يَنْجَعُ فِي تَرْكِهِ التَّفَكُّرُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ ، فَتَرْكُهُ يَحْصُلُ بِالْوَعْدِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْغَيْرِ ، وَقِسْمٌ يَنْشَأُ مِنْ دَوَاعٍ طَبِيعِيَّةٍ كَالْأُمُورِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَعَنِ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَدْ يَصْعُبُ تَرْكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّفَكُّرِ ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ وَسِيلَةً لِاتِّقَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي هِيَ دَاعِيَةُ تِلْكَ الْمَعَاصِي ، لِيَرْتَقِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ الِانْغِمَاسِ فِي الْمَادَّةِ إِلَى أَوْجِ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلِارْتِيَاضِ بِالصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَالِانْتِفَاضِ مِنْ غُبَارِ الْكُدُرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341221الصَّوْمُ جُنَّةٌ أَيْ : وِقَايَةٌ ، وَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ مُتَعَلِّقِ ( جُنَّةٍ ) تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْوِقَايَةِ الْمَرْغُوبَةِ ، فَفِي الصَّوْمِ وِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ ، وَوِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَوِقَايَةٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَدْوَاءِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ظَرْفٌ لِلصِّيَامِ مِثْلَ قَوْلِكَ : الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ " الصِّيَامُ " وَبَيْنَ " أَيَّامًا " ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( كَمَا كُتِبَ ) إِلَى ( تَتَّقُونَ ) لِأَنَّ الْفَصْلَ لَمْ يَكُنْ بِأَجْنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ، إِذِ الْحَالُ وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ " لَعَلَّ " كُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عَامِلِ الْمَفْعُولِ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ " صِيَامٌ " ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَامِلِ فِي ذَلِكَ الْعَامِلُ وَهُوَ ( كُتِبَ ) فَإِنَّ عَامِلَ الْعَامِلِ فِي الشَّيْءِ عَامِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَلِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا ، لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجِ nindex.php?page=showalam&ids=14423وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ ، وَمَرْجِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى تَجَنُّبِ تَشْتِيتِ الْكَلَامِ بِاخْتِلَالِ نِظَامِهِ الْمَعْرُوفِ ، تَجَنُّبًا لِلتَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ .
وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا ، وَبِخَاصَّةٍ الْعَرَبُ هُوَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْخُمُورِ وَلَهْوِ النِّسَاءِ وَالدَّعَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَفِّرُ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ وَالدَّمَوِيَّةَ
[ ص: 159 ] فِي الْأَجْسَادِ ، فَتَقْوَى الطَّبَائِعُ الْحَيَوَانِيَّةُ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْقُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ . وَتَطْغَيَانِ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ ، فَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِشَرْعِ الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَفِي بِتَهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى ، إِذْ هُوَ يُمْسِكُ الْإِنْسَانَ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُثِيرَاتِ إِفْرَاطِهَا ، فَتَكُونُ نَتِيجَتُهُ تَعْدِيلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الِاكْتِفَاءِ بِهَا إِلَى أَوْقَاتٍ أُخْرَى .
وَالصَّوْمُ بِمَعْنَى إِقْلَالِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَبْلُغُ حَدَّ الشِّبَعِ أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْكَلِ ، أَصْلٌ قَدِيمٌ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى لَدَى الْمِلِّيِّينَ وَلَدَى الْحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِيِّينَ ، وَالْحِكْمَةُ الْإِشْرَاقِيَّةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِإِزَالَةِ كُدُرَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ عَنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ قُوَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا رُوحَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ ، وَالْأُخْرَى حَيَوَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ كُلِّهَا ، وَإِذْ كَانَ الْغِذَاءُ يُخَلِّفُ لِلْجَسَدِ مَا يُضَيِّعُهُ مِنْ قُوَّتِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِضَاعَةً تَنْشَأُ عَنِ الْعَمَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ وَغَيْرِهَا ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ زِيَادَةُ الْغِذَاءِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ تُوَفِّرُ لِلْجِسْمِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُهُ ، وَكَانَ نُقْصَانُهُ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِفْظُ الْحَيَاةِ بِدُونِهِ ، وَكَانَ تَغَلُّبُ مَظْهَرِ إِحْدَى الْقُوَّتَيْنِ بِمِقْدَارِ تَضَاؤُلِ مَظْهَرِ الْقُوَّةِ الْأُخْرَى ، فَلِذَلِكَ وَجَدُوا أَنَّ ضَعْفَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ يُقَلِّلُ مَعْمُولَهَا فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْجَسَدِ ، وَيَتَدَرَّجُ بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى يَصِيرَ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِ ، بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَّا حَيَاةُ الْجِسْمِ الْحَافِظَةُ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَعْدِيلُ مِقْدَارِ هَذَا التَّنَاقُصِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْحَيَاةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَيِّعُ الْمَقْصُودَ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِلْعَوَالِمِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، فَهَذَا التَّعَادُلُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ هُوَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ فِي الْمِلَلِ وَوَضْعِيَّتِهِ فِي حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ اخْتِلَافًا مُنَاسِبًا لِلْأَحْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ هِيَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَفِيتُ الْمَقْصِدُ مِنَ الْحَيَاتَيْنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ الْكَيْفِيَّاتِ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ مِنَ الصِّيَامِ هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ ، قِيلَ فِي هَيَاكِلِ النُّورِ : النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَكُوتِ إِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا ، فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَتَتَّصِلُ بِأَبِيهَا الْمُقَدَّسِ وَتَتَلَقَّى مِنْهُ الْمَعَارِفَ ، فَمِنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الْبَرَاهِمَةِ أَكْلَ لُحُومِ الْحَيَوَانِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى النَّبَاتِ
[ ص: 160 ] أَوِ الْأَلْبَانِ ، وَكَانَ حُكَمَاءُ
الْيُونَانِ يَرْتَاضُونَ عَلَى إِقْلَالِ الطَّعَامِ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى يَعْتَادُوا تَرْكَهُ أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ التَّدْرِيجَ فِي إِقْلَالِ الطَّعَامِ تَدْرِيجًا لَا يُخْشَى مِنْهُ انْخِرَامُ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَزِنَ الْحَكِيمُ شَبَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِأَعْوَادٍ مِنْ شَجَرِ التِّينِ رَطْبَةً ، ثُمَّ لَا يُجَدِّدُهَا فَيَزِنُ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ طَعَامَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى زِنَتِهَا وَهَكَذَا يَسْتَمِرُّ حَتَّى تَبْلُغَ مِنَ الْيُبْسِ إِلَى حَدٍّ لَا يُبْسَ بَعْدَهُ ، فَتَكُونُ هِيَ زِنَةُ طَعَامِ كُلِّ يَوْمٍ .
وَفِي حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ
لِلسَّهْرُوَرْدِيِّ : " وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ يَرْتَاضُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَارِكًا لِلُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ مُقَلِّلًا لِلطَّعَامِ مُنْقَطِعًا إِلَى التَّأَمُّلِ لِنُورِ اللَّهِ " ا هـ .
وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَى الْهَيْكَلِ الْبَشَرِيِّ بِمَا هُوَ مُسْتَوْدَعُ حَيَاةٍ حَيَوَانِيَّةٍ أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ حَيَوَانِيَّتِهِ ، فَمِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ الْبَاتُّ عَنْ إِمْدَادِ حَيَوَانِيَّتِهِ بِمَطْلُوبَاتِهَا ، فَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ لِتَطَلُّبِ ارْتِقَاءِ نَفْسِهِ أَنْ يَتَدَرَّجَ بِهِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ مِنْ تَهْذِيبِ حَيَوَانِيَّتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، لِذَلِكَ كَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَهَمِّ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْغَرَضِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ ؛ هُمَا الِاقْتِصَادُ فِي إِمْدَادِ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ وَتَعَوُّدُ الصَّبْرِ بِرَدِّهَا عَنْ دَوَاعِيهَا ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْبُلُوغُ إِلَى الْحَدِّ الْأَتَمِّ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا كَمَا عَلِمْتَ ، حَاوَلَ أَسَاطِينُ الْحِكْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الْإِقْلَالَ مِنْهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَالَجَ الْإِقْلَالَ بِنَقْصِ الْكَمِّيَّاتِ وَهَذَا صَوْمُ الْحُكَمَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَهُ مِنْ جَانِبِ نَقْصِ أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَهَذَا صَوْمُ الْأَدْيَانِ وَهُوَ أَبْلَغُ إِلَى الْقَصْدِ وَأَظْهَرُ فِي مَلَكَةِ الصَّبْرِ ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ دُرْبَةٌ عَلَى تَرْكِ شَهَوَاتِهِ ، فَيَتَأَهَّلُ لِلتَّخَلُّقِ بِالْكَمَالِ فَإِنَّ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَمَالَاتِ وَالْفَضَائِلِ هُوَ ضَعْفُ التَّحَمُّلِ لِلِانْصِرَافِ عَنْ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ .
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا
فَيُوشِكُ أَنْ تَلْقَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا
فَإِنْ قُلْتَ : إِذَا كَانَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّوْمِ ارْتِيَاضَ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَإِثَارَةِ الشُّعُورِ بِمَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْخَصَاصَةِ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ ، وَاسْتِشْعَارَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجِدَّةِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَأَهْلِ الشَّظَفِ فِي أُصُولِ الْمَلَذَّاتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللَّهْوِ ، فَلِمَاذَا اخْتَلَفَتِ الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الصِّيَامِ ، وَلِمَاذَا الْتَزَمَتِ الدِّيَانَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي كَيْفِيَّتِهِ صُورَةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ تَكِلْ ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِ يَتَّخِذُ لِإِرَاضَةِ نَفْسِهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ الْمُرَادَةِ .
[ ص: 161 ] قُلْتُ : شَأْنُ التَّعْلِيمِ الصَّالِحِ أَنْ يَضْبُطَ لِلْمُتَعَلِّمِ قَوَاعِدَ وَأَسَالِيبَ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا ، فَإِنَّ مُعَلِّمَ الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّةِ يَضْبُطُ لِلْمُتَعَلِّمِ كَيْفِيَّاتٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ بِأَعْضَائِهِ وَتَطَوُّرَ قَامَتِهِ انْتِصَابًا وَرُكُوعًا وَقُرْفُصَاءَ ، بَعْضُ ذَلِكَ يُثْمِرُ قُوَّةَ عَضَلَاتِهِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ اعْتِدَالَ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ ، وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ وَظَائِفَ شَرَايِينِهِ ، وَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ حَدَّدَهَا أَهْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدْنَوْا بِهَا حُصُولَ الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ ، وَلَوْ وَكَّلَ ذَلِكَ لِلطَّالِبِينَ لَذَهَبَتْ أَوْقَاتٌ طَوِيلَةٌ فِي التَّجَارِبِ وَتَعَدَّدَتِ الْكَيْفِيَّاتُ بِتَعَدُّدِ أَفْهَامِ الطَّالِبِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ ، وَهَذَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .
nindex.php?page=treesubj&link=2333_28973وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ مِنْ قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ شَهْرُ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ رَمَضَانَ بِأَيَّامٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ ، وَوَصَفَ بِمَعْدُودَاتٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ أَيْضًا ؛ تَهْوِينًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ ، وَالْمَعْدُودَاتُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ عَدًّا ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ : الْكَثِيرُ لَا يُعَدُّ ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ فِي وَصْفِ الْجَمْعِ مَجِيئُهُ فِي التَّأْنِيثِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ الَّذِي فِيهِ هَاءُ تَأْنِيثٍ أَكْثَرَ ، قَالَ
أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي بَعْدَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ : صِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَتَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ نَحْوَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَعْدُودَاتٌ جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ ، وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَصِيحٌ ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تُرِكَ فِيهِ تَحْقِيقًا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى جَمْعٍ مُذَكَّرٍ إِذَا أَنَّثُوهُ أَنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا مُفْرَدًا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُوِّلَ بِالْجَمَاعَةِ ، وَالْجَمَاعَةُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْجَمْعِ أَجْرَوْا وَصْفَهُ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ ؛ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ يَنْحَلُّ إِلَى جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَرَى أَنَّ مَعْدُودَاتٍ أَكْثَرُ مِنْ مَعْدُودَةٍ ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً لِأَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَهَا غُرُورًا أَوْ تَغْرِيرًا ، وَقَالَ هُنَا : مَعْدُودَاتٌ ؛ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ فِي جَمْعِ جَمَلٍ جِمَالَاتٍ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ جِمَالٍ ، وَعَنِ
الْمَازِنِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَجِيءُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ تَقُولُ : الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَقُولُ : الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتِ ا هـ . وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ غَيْرُ رَمَضَانَ بَلْ هِيَ أَيَّامٌ وَجَبَ صَوْمُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا فُرِضَ
[ ص: 162 ] الصِّيَامُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=184أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ثُمَّ نُسِخَ صَوْمُهَا بِصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَهِيَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَهِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
مُعَاذٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ رَمَضَانَ إِلَّا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ مَفْرُوضٌ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْأَيَّامِ الْبِيضِ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ رِوَايَةً ، فَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَا لَفْظًا وَلَا أَثَرًا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ السَّائِلِ الَّذِي قَالَ : لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341222أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ .