تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا
ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله ، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية ، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها .
فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله : ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) .
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم : ( أو تكون له جنة ) إلخ ، أي إن شاء جعل لك خيرا من الذي اقترحوه ، أي : أفضل منه ، أي : إن شاء عجله لك في الدنيا ، فالإشارة إلى المذكور من قولهم ، فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جنات في الدنيا وقصورا فيها ، أي : خيرا من الذي اقترحوه دليلا على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور . وبهذا فسر [ ص: 331 ] جمهور المفسرين . وعلى هذا التأويل تكون ( إن ) الشرطية واقعة موقع ( لو ) ، أي : أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ، ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ، ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية .
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا ، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعدا من الله لرسوله .
واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية ، وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله ، فالله شاء ذلك لا محالة ، بأن يقال : تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك . فموقع ( إن شاء ) اعتراض .
وأصل المعنى : تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك جنات إلى آخره . ويساعد هذا قراءة ابن كثير ، وابن عامر ، وأبي بكر عن عاصم ( ويجعل لك قصورا ) برفع ( يجعل ) على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط ، وقراءة الأكثر بالجزم عطفا على فعل الشرط ، وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة ، وهذا المحمل أشد تبكيتا للمشركين وقطعا لمجادلتهم ، وقرينة ذلك قوله بعده : ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) ، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين .
والقصور : المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله : ( تتخذون من سهولها قصورا ) في سورة الأعراف ، وقوله : ( وقصر مشيد ) في سورة الحج .