انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه ( تبرنا ) . وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها . ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله : ( فدمرناهم تدميرا ) .
وتنوين ( عادا وثمودا ) مع أن المراد الأمتان : فأما تنوين ( عادا ) فهو وجه وجيه ؛ لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف . وأما صرف ( ثمودا ) في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب ، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع ( عادا ) كما قال تعالى : ( سلاسلا وأغلالا وسعيرا ) .
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي . وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف .
وأما أصحاب الرس فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرس بئر عظيمة أو حفير كبير . ولما كان اسما لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب .
قال زهير :
[ ص: 28 ]
بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن ووادي الرس كاليد للفم
وسموا بالرس ما عرفوه من بلاد فارس ، وإضافة ( أصحاب ) إلى ( الرس ) إما لأنهم أصابهم الخسف في رس ، وإما لأنهم نازلون على رس ، وإما لأنهم احتفروا رسا ، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدوه وأضرموه . والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى ( فلجا ) .واختلف في المعني من ( أصحاب الرس ) في هذه الآية فقيل : هم قوم من بقايا ثمود . وقال السهيلي : هم قوم كانوا في عدن أرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولا . وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير ( سميت العنقاء لطول عنقها ) وكانت تسكن في جبل يقال له ( فتح ) ، وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق . وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله . قال : خسف بهم وبديارهم . وقيل : هم قوم وهب بن منبه شعيب . وقيل : قوم كانوا مع قوم شعيب ، وقال مقاتل والسدي : الرس بئر بأنطاكية ، وأصحاب الرس أهل أنطاكية بعث إليهم حبيب النجار فقتلوه ورسوه في بئر وهو المذكور في سورة يس ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) الآيات . وقيل : الرس واد في ( أذربيجان ) في ( أران ) يخرج من ( قاليقلا ) ويصب في بحيرة ( جرجان ) ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية . ولعله من تشابه الأسماء ، يقال : كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف وقيل غير ذلك مما هو أبعد .
والقرون : الأمم ؛ فإن القرن يطلق على الأمة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) في أول الأنعام . وفي الحديث : الحديث . خير القرون قرني ثم الذين يلونهم
[ ص: 29 ] والإشارة في قوله : ( بين ذلك ) إلى المذكور من الأمم . ومعنى ( بين ذلك ) أن أمما تخللت تلك الأقوام ابتداء من قوم نوح .
وفي هذه الآية إيذان بطول مدد هذه القرون وكثرتها .
والتنوين في ( كلا ) تنوين عوض عن المضاف إليه . والتقدير : وكلهم ضربنا له الأمثال . وانتصب ( كلا ) الأول بإضمار فعل يدل عليه ( ضربنا له ) تقديره : خاطبنا أو حذرنا كلا وضربنا له الأمثال ، وانتصب ( كلا ) الثاني بإضمار فعل يدل عليه ( تبرنا ) وكلاهما من قبيل الاشتغال .
والتتبير : التفتيت للأجسام الصلبة كالزجاج والحديد . وأطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعية في ( تبرنا ) وأصلية في ( تتبيرا ) ، وتقدم في قوله تعالى : ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) في سورة الأعراف ، وقوله : ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) في سورة الإسراء . وانتصب ( تتبيرا ) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك .
ومعنى ضرب الأمثال : قولها وتبيينها . وتقدم عند قوله تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ) في سورة البقرة .
والمثل : النظير والمشابه ، أي بينا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها . قال تعالى : ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) .