وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزؤا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها .
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهم الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالا [ ص: 32 ] في مغيبه ، فعطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه . وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زي الكبراء والمترفين لا يجر المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحا ولا ينظر خيلاء ويجالس الصالحين ويعرض عن المشركين ، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء ، وأولئك يستخفون بالخلق الحسن ، لما غلب على آرائهم من أفن ، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونهم ، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم . وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه .
و ( إذا ) ظرف زمان مضمن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلقه جوابا له . فجملة ( إن يتخذونك إلا هزؤا ) جواب ( إذا ) . والهزؤ بضمتين : مصدر هزأ به . وتقدم في قوله : ( قالوا أتتخذنا هزؤا ) ) في سورة البقرة . والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهزؤ ؛ لأنهم محضوه لذلك ، وإسناد ( يتخذونك ) إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم . وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدأبون عليه ولا يخلطون معه شيئا من تذكر أقواله ودعوته ، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية ، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء .
وجملة أهذا الذي بعث الله رسولا بيان لجملة إن يتخذونك إلا هزؤا ؛ لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذبتهم الأحاديث بينهم .
والاستفهام إنكار ؛ لأن يكون بعثه الله رسولا .
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية .
والمعنى : إنكار أن يكون المشار إليه رسولا ؛ لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم ، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤا أهذا الذي يذكر آلهتكم في سورة الأنبياء ، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره .
[ ص: 33 ] أما قولهم : ( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تأثر أسماعهم بأقواله يوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لولا أنهم تريثوا ، فكان في الريث أن أفاقوا من غشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآه فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثا من عند الله ، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يستفز غير الراسخين في الكفر . وهذا الكلام مشوب بفساد الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء ؛ إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين . ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعا على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالهم تستلزم اقترابهم من الضلال .
و ( إن ) مخففة من ( إن ) المشددة ، والأكثر في الكلام إهمالها ، أي : ترك عملها نصب الاسم ورفع الخبر ، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو أخوات ظن وهذا من غرائب الاستعمال . ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في ( أن ) المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيدا . وفي كلام صاحب الكشاف ما يشهد له في تفسير قوله تعالى : ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) في سورة آل عمران . والجملة بعدها مستأنفة ، واللام في قوله : ( ليضلنا ) هي الفارقة بين ( إن ) المخففة وبين ( إن ) النافية .
والصبر : الاستمرار على ما يشق عمله على النفس . ويعدى فعله بحرف ( على ) لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه .
و ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، أي : امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جوابا لشرطها ، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل ( لولا ) عليه ، وهو ( إن كاد ليضلنا ) . وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يوتى بالشرط بعده تقييدا لإطلاق الخبر ، فالصناعة النحوية تعتبر المقدم دليل الجواب ، والجواب محذوفا ؛ لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب ؛ فأما أهل البلاغة فيعتبرون [ ص: 34 ] ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه ، ولذا قال في الكشاف : ( لولا ) في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة . فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى : ( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) إلى قوله : ( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ) فإن قوله : ( إن كنتم ) قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداء الله . وتأخير الشرط ليظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب . قال في الكشاف : ( إن كنتم خرجتم ) متعلق بـ ( لا تتخذوا ) يعني : لا تتولوا إن كنتم أوليائي . وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ) . اهـ . وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جوابا للشرط تقديما لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى : ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) .