nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28996_31758_31763وهو الذي أرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا
استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحبة والمطر . ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به ، فانتقل إلى ما في الرياح من النشور بذكر وصفها بأنها نشر على قراءة الجمهور ، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة
عاصم . ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالا لادعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات ، وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=47وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) إلخ . . .
وأطلق على تكوين الرياح فعل ( أرسل ) الذي هو حقيقة في بعث شيء وتوجيهه ؛ لأن حركة الرياح تشبه السير . وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق .
وهذا استدلال بدقيق خلق الله في تكوين الرياح ، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت مشاهدتهم من ذلك ، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها ، وذلك ناشئ عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر . ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكون الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها : نشر بين يدي المطر .
قرأ الجمهور ( أرسل الرياح ) بصيغة الجمع . وقرأ
ابن كثير ( الريح )
[ ص: 47 ] بصيغة الإفراد على معنى الجنس . والقراءتان متحدتان في المعنى ، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير ، وإفراد الريح في ريح العذاب . قاله ابن عطية . وتقدم في قوله تعالى : ( وتصريف الرياح ) في سورة البقرة .
وقرأ الجمهور ( نشرا ) بنون في أوله وبضمتين جمع نشور كرسول ورسل . وقرأ
ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر ، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي ؛ لأن الرياح تنشر السحاب . وقرأ
عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بشور من التبشير ؛ لأنها تبشر بالمطر . وتقدم قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته ) ) في سورة الأعراف .
والالتفات من الغيبة إلى المتكلم في قوله : ( وأنزلنا - لنحيي - ونسقيه - ولقد صرفناه ) للداعي الذي قدمناه في قوله آنفا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=45ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا ) .
والمراد بـ ( رحمته ) المطر ؛ لأنه رحمة للناس والحيوان بما ينبته من الشجر والمرعى .
وجملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) عطف على جملة ( أرسل الرياح ) إلخ ، فهي داخلة في حيز القصر ، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهورا . وضمير ( أنزلنا ) التفات من الغيبة إلى التكلم ؛ لأن التكلم أليق بمقام الامتنان . وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=19أو كصيب من السماء ) في سورة البقرة .
والطهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال : رجل صبور . وماء المطر بالغ منتهى الطهارة ؛ إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقا . والمعنى : أن
nindex.php?page=treesubj&link=15الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ، ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مطهر لغيره ؛ إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فعول لزيادة معنى في الوصف ، فاقتضاؤه في هذه الآية أنه مطهر لغيره اقتضاء التزامي
[ ص: 48 ] ليكون مستكملا وصف الطهارة القاصرة والمتعدية ، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجا لمنة في أثناء المنن المقصودة ، كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=11وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) وصف الطهارة الذاتية وتطهيره ، فيكون هذا الوصف إدماجا ، ولولا ذلك لكان الأحق بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك .
والبلدة : الأرض . ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف ؛ لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي وجفاف الأرض يجف به النبات فيشبه الميت .
ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض ؛ لأنه لخلوه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحا بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت .
والبلدة : البلد . والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا : دار ودارة . ووصفت البلدة بميت ، وهو وصف مذكر لتأويل ( بلدة ) بمعنى مكان لقصد التخفيف . وقال في الكشاف ما معناه : إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جاريا على أمثلة المبالغة نزل منزلة الاسم الجامد ( أي فلم يغير ) . وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت ، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ .
وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49لنحيي به بلدة ميتا ) إيماء إلى تقريب إمكان البعث .
( ونسقيه ) بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل : هما لغتان . يقال : أسقى وسقى . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=23قالتا لا نسقي ) بفتح النون . وقيل : سقى : أعطى الشراب ، وأسقى : هيأ الماء للشرب . وهذا القول أسد ؛ لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيأناه لشرب الأنعام والأناسي ، فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب .
و ( أنعاما ) مفعول ثان لـ ( نسقيه ) . وقوله : ( مما خلقنا ) حال من (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49أنعاما وأناسي ) . و ( من ) تبعيضية . و ( ما ) موصولة ، أي : بعض ما خلقناه ، والموصول للإيماء إلى علة الخبر ، أي : نسقيهم لأنهم مخلوقات . ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها ؛ لأنها خلقه . وفيه إشارة إلى أن أنواعا أخرى من
[ ص: 49 ] الخلائق تسقى بماء السماء ، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي ؛ لأنهما موقع المنة ؛ فالأنعام بها صلاح حال البادين بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران .
والأناسي : جمع إنسي ، وهو مرادف إنسان . فالياء فيه ليست للنسب . وجمع على فعالي مثل كرسي وكراسي . ولو كانت ياؤه نسب لجمع على أناسية كما قالوا : صيرفي وصيارفة . ووصف الأناسي بـ ( كثيرا ) ؛ لأن بعض الأناسي لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات ، والآبار والصهاريج ، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء . فالمنة أخص بهم ، قال
زيادة الحارثي :
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى لأنفسنا من دون مملكة قصرا
وفي أحاديث ذكر
هاجر زوج
إبراهيم عليه السلام قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : ( فتلك أمكم يا بني ماء السماء ) يعني العرب . وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار .
ووصف أناسي ، وهو جمع بكثير وهو مفرد ؛ لأن فعيلا قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=86واذكروا إذ كنتم قليلا ) ) .
وتقديم ذكر الأنعام على الأناسي اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) ) ، ولو قدم ذكر ( أناسي ) لتفكك النظم . ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=33متاعا لكم ولأنعامكم ) ) في سورة النازعات لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب .
وضمير ( صرفناه ) عائد إلى ( ماء طهورا ) . والتصريف : التغيير . والمراد هنا تغيير أحوال الماء ، أي : مقاديره ومواقعه .
وتوكيد الجملة بلام القسم و ( قد ) لتحقيق التعليل ؛ لأن تصرف المطر محقق لا
[ ص: 50 ] يحتاج إلى التأكيد ، وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم ؛ لأن كثيرا من الناس لا يقدر قدر النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الرب الواحد المختار في خلق الأسباب والمسببات ، وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية .
ولما كان التذكر شاملا لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ، ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون ، جيء في التعليل بفعل ( ليذكروا ) ليكون علة لحالتي التصريف بينهم .
وقوله : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ) تركيب جرى بمادته وهيئته مجرى المثل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء ، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى ، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه ؛ لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأن الآبين قد عرضت عليهم _ من الناس أو من خواطرهم _ أمور وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكفور وإن لم يكن هنالك عرض ولا إباء ، ومنه قوله تعالى في سورة براءة : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) ) ؛ ألا ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام . وشدة الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يستعمل في قوله تعالى في سورة الصف (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ) .
والكفور : مصدر بمعنى الكفر . وتقدم نظيره في سورة الإسراء ، أي : أبوا إلا الإشراك بالله وعدم التذكر .
وقرأ الجمهور ( ليذكروا ) بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاء وأصله ليتذكروا . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة ، أي : ليذكروا ما هم عنه غافلون .
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القطر ، فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما عام أقل مطرا من عام ولكن
[ ص: 51 ] الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء . وتلا هذه الآية . وذكر
القرطبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود عن النبيء صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
ما من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن إذا عمل قوم المعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار ) اهـ . فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه . وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر ، فهو
nindex.php?page=treesubj&link=31763_32443من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير .
وجوز فريق أن يكون ضمير ( صرفناه ) عائدا إلى غير مذكور معلوم في المقام مراد به القرآن ؛ قالوا : لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره ، وتكرر في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=30إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) . وأصل هذا التأويل مروي عن
عطاء . ولقوله بعده (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=52وجاهدهم به جهادا كبيرا ) .
وقيل : الضمير عائد إلى الكلام المذكور ، أي : ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذكروا .
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28996_31758_31763وَهْوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَامْتِنَانٌ بِتَكْوِينِ الرِّيَاحِ وَالْأَسْحِبَةِ وَالْمَطَرِ . وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ النُّشُورِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ النُّشُورِ بِذِكْرِ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا نُشُرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ، أَوْ لِكَوْنِهَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ عَلَى قِرَاءَةِ
عَاصِمٍ . وَمَرْدُودُ الِاسْتِدْلَالِ قَصْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِبْطَالًا لِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِنَفْيِ الشَّرِكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ ، وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=47وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) إِلَخْ . . .
وَأُطْلِقَ عَلَى تَكْوِينِ الرِّيَاحِ فِعْلُ ( أَرْسَلَ ) الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْثِ شَيْءٍ وَتَوْجِيهِهِ ؛ لِأَنَّ حَرَكَةَ الرِّيَاحِ تُشْبِهُ السَّيْرَ . وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ الْإِرْسَالِ فِي إِطْلَاقِ الْعَنَانِ لِخَيْلِ السِّبَاقِ .
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَقِيقِ خَلْقِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الرِّيَاحِ ، فَالْعَامَّةُ يَعْتَبِرُونَ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُشَاهَدَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْخَاصَّةُ يُدْرِكُونَ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ وَهُبُوبِهَا وَاخْتِلَافِهَا ، وَذَلِكَ نَاشِئٌ عَنِ الْتِقَاءِ حَرَارَةِ جَانِبٍ مِنَ الْجَوِّ بِبُرُودَةِ جَانِبٍ آخَرَ . ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ بِهُبُوبِهَا حَارَّةً مَرَّةً وَبَارِدَةً أُخْرَى تُكَوِّنُ الْأَسْحِبَةَ وَتُؤْذِنُ بِالْمَطَرِ فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا : نُشُرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ ( أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ . وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ ( الرِّيحَ )
[ ص: 47 ] بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ . وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنْ غَلَبَ جَمْعُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْخَيْرِ ، وَإِفْرَادُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْعَذَابِ . قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ( نُشُرًا ) بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ . وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْحَرَكَةِ . وَقَرَأَ
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ كَمَا يُنْشَرُ الثَّوْبُ الْمَطْوِيُّ ؛ لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ . وَقَرَأَ
عَاصِمٌ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الشِّينِ جَمْعَ بَشُورٍ مِنَ التَّبْشِيرِ ؛ لِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ . وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ : ( وَأَنْزَلْنَا - لِنُحْيِيَ - وَنَسْقِيَهُ - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ) لِلدَّاعِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ آنِفًا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=45ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ) .
وَالْمُرَادُ بِـ ( رَحْمَتِهِ ) الْمَطَرُ ؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ بِمَا يُنْبِتُهُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْمَرْعَى .
وَجُمْلَةُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ ( أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ) إِلَخْ ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا . وَضَمِيرُ ( أَنْزَلْنَا ) الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=19أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَالطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ : رَجُلٌ صَبُورٌ . وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ ؛ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=15الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ ، وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ ؛ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ
[ ص: 48 ] لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِنَنِ الْمَقْصُودَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=11وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَالْبَلْدَةُ : الْأَرْضُ . وَوَصْفُهَا بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَجَازَانِ لِلرَّيِّ وَالْجَفَافِ ؛ لِأَنَّ رَيَّ الْأَرْضِ يَنْشَأُ عَنْهُ النَّبَاتُ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَيَّ وَجَفَافُ الْأَرْضِ يَجِفُّ بِهِ النَّبَاتُ فَيُشْبِهُ الْمَيِّتَ .
وَلِمَاءِ الْمَطَرِ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ لِكُلِّ أَرْضٍ ؛ لِأَنَّهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ وَمِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ كَانَ صَالِحًا بِكُلِّ أَرْضٍ وَبِكُلِّ نَبَاتٍ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِ الْأَرَضِينَ وَالْمَنَابِتِ .
وَالْبَلْدَةُ : الْبَلَدُ . وَالْبَلَدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْبِقَاعِ كَمَا قَالُوا : دَارٌ وَدَارَةٌ . وَوُصِفَتِ الْبَلْدَةُ بِمَيِّتٍ ، وَهُوَ وَصْفٌ مُذَكِّرٌ لِتَأْوِيلِ ( بَلْدَةٍ ) بِمَعْنَى مَكَانٍ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ . وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ مَا مَعْنَاهُ : إِنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ الْجَامِدِ ( أَيْ فَلَمْ يُغَيَّرْ ) . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَيِّتِ ، وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ وَصْفٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ .
وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) إِيمَاءٌ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ .
( وَنُسْقِيَهُ ) بِضَمِّ النُّونِ مُضَارِعُ أَسْقَى مِثْلَ الَّذِي بِفَتْحِ النُّونِ فَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ . يُقَالُ : أَسْقَى وَسَقَى . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=23قَالَتَا لَا نَسْقِي ) بِفَتْحِ النُّونِ . وَقِيلَ : سَقَى : أَعْطَى الشَّرَابَ ، وَأَسْقَى : هَيَّأَ الْمَاءَ لِلشُّرْبِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَسَدُّ ؛ لِأَنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مِنْ مَحَاسِنِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَيَّأْنَاهُ لِشُرْبِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ ، فَكُلُّ مَنِ احْتَاجَ لِلشُّرْبِ شَرِبَ مِنْهُ سَوَاءٌ مَنْ شَرِبَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ .
وَ ( أَنْعَامًا ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِـ ( نُسْقِيَهُ ) . وَقَوْلُهُ : ( مِمَّا خَلَقْنَا ) حَالٌ مِنْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=49أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ ) . و ( مِنْ ) تَبْعِيضِيَّةٌ . وَ ( مَا ) مَوْصُولَةٌ ، أَيْ : بَعْضَ مَا خَلَقْنَاهُ ، وَالْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ ، أَيْ : نُسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ . فَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا خَلْقُهُ . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ
[ ص: 49 ] الْخَلَائِقِ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ ، وَلَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مَوْقِعُ الْمِنَّةِ ؛ فَالْأَنْعَامُ بِهَا صَلَاحُ حَالِ الْبَادِينَ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا ، وَهِيَ تَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَحْوَاضِ وَالْغُدْرَانِ .
وَالْأَنَاسِيُّ : جَمْعُ إِنْسِيٍّ ، وَهُوَ مُرَادِفُ إِنْسَانٍ . فَالْيَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ . وَجُمِعَ عَلَى فَعَالِيَّ مِثْلِ كُرْسِيِّ وَكَرَاسِيَّ . وَلَوْ كَانَتْ يَاؤُهُ نَسَبٌ لَجُمِعَ عَلَى أَنَاسِيَةٍ كَمَا قَالُوا : صَيْرَفِيٌّ وَصَيَارِفَةٌ . وَوُصِفَ الْأَنَاسِيُّ بِـ ( كَثِيرًا ) ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنَاسِيِّ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ مِنْ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ ، وَالْآبَارِ وَالصَّهَارِيجِ ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ . فَالْمِنَّةُ أَخَصُّ بِهِمْ ، قَالَ
زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ :
وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرًا
وَفِي أَحَادِيثِ ذِكْرِ
هَاجَرَ زَوْجِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ : ( فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ ) يَعْنِي الْعَرَبَ . وَمَاءُ الْمَطَرِ لِنَقَاوَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَالِحٌ بِأَمْعَاءِ كُلِّ النَّاسِ وَكُلِّ الْأَنْعَامِ دُونَ بَعْضِ مِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ .
وَوَصَفَ أَنَاسِيَّ ، وَهُوَ جَمْعٌ بِكَثِيرٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ ؛ لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِثْلَ رَفِيقٍ وَكَذَلِكَ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=86وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا ) ) .
وَتَقْدِيمُ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ عَلَى الْأَنَاسِيِّ اقْتَضَاهُ نَسْجُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَحْكَامِ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ) ) ، وَلَوْ قُدِّمَ ذِكْرُ ( أَنَاسِيَّ ) لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ . وَلَمْ يُقَدَّمْ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=33مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) ) فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي لِلتَّقْدِيمِ فَجَاءَ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ .
وَضَمِيرُ ( صَرَّفْنَاهُ ) عَائِدٌ إِلَى ( مَاءً طَهُورًا ) . وَالتَّصْرِيفُ : التَّغْيِيرُ . وَالْمُرَادُ هُنَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِ الْمَاءِ ، أَيْ : مَقَادِيرِهِ وَمَوَاقِعِهِ .
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ ( قَدْ ) لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَطَرِ مُحَقَّقٌ لَا
[ ص: 50 ] يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ ، وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ هُوَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ تَصْرِيفِهِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ نُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَفِي حَالَةِ إِمْسَاكِهِ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَقْدُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الْمُخْتَارُ فِي خَلْقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ، وَقَدْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حِكْمَةَ الْخَالِقِ وَيُسْنِدُونَ الْآثَارَ إِلَى مُؤَثِّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ أَوْ صُورِيَّةٍ .
وَلَمَّا كَانَ التَّذَكُّرُ شَامِلًا لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ ، وَلِتَفَطُّنِ الْمَحْرُومِينَ إِلَى سَبَبِ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهُ لَعَلَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، جِيءَ فِي التَّعْلِيلِ بِفِعْلِ ( لِيَذَّكَّرُوا ) لِيَكُونَ عِلَّةً لِحَالَتَيِ التَّصْرِيفِ بَيْنَهُمْ .
وَقَوْلُهُ : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=50فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ) ) تَرْكِيبٌ جَرَى بِمَادَّتِهِ وَهَيْئَتِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَصْمِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّارِفِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى ، أَيْ فَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفُورِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ عُمُومِ أَشْيَاءٍ مُبْهَمَةٍ جُعِلَتْ كُلُّهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبَاءُ كَأَنَّ الْآبِينَ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ _ مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ _ أُمُورٌ وَرَاجَعُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهَا إِلَّا الْكُفُورَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَرْضٌ وَلَا إِبَاءٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ : ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) ) ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلتَّوْحِيدِ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ . وَشِدَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي كُفْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَكْشُوفَةٌ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=8يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) .
وَالْكُفُورُ : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكُفْرِ . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ، أَيْ : أَبَوْا إِلَّا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَعَدَمَ التَّذَكُّرِ .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ( لِيَذَّكَّرُوا ) بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُدْغَمَةً فِيهَا التَّاءُ وَأَصْلُهُ لِيَتَذَكَّرُوا . وَقَرَأَ
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ مَضْمُومَةً ، أَيْ : لِيَذْكُرُوا مَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ .
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ مَقَادِيرُ تَوْزِيعِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْقَطْرِ ، فَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : مَا عَامٌ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ
[ ص: 51 ] اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا شَاءَ . وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ . وَذَكَرَ
الْقُرْطُبِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (
مَا مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى ، وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ الْمَعَاصِيَ صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِيِ وَالْبِحَارِ ) اهـ . فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تَخْتَلِفُ كِمِّيَّتُهُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَوْزِيعُهُ . وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ قَرَّرَهَا عُلَمَاءُ حَوَادِثِ الْجَوِّ فِي الْقَرْنِ الْحَاضِرِ ، فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=31763_32443مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ .
وَجَوَّزَ فَرِيقٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ( صَرَّفْنَاهُ ) عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مَعْلُومٍ فِي الْمَقَامِ مُرَادٍ بِهِ الْقُرْآنُ ؛ قَالُوا : لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِهِ ، وَتَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=30إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) . وَأَصْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَرْوِيٌّ عَنْ
عَطَاءٍ . وَلِقَوْلِهِ بَعْدَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=52وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) .
وَقِيلَ : الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ ، أَيْ : وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْكَلَامَ وَكَرَّرْنَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ لِيَذَّكَرُوا .