شروع في عد آيات على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذكر عواقب المكذبين برسلهم [ ص: 103 ] ليحذر المخاطبون بالدعوة إلى الإسلام من أن يصيبهم ما أصاب المكذبين . وفي ضمن ذلك تبيين لبعض ما نادى به الرسل من البراهين .
وإذ قد كانت هذه الأدلة من المثلات قصد ذكر كثير اشتهر منها ولم يقتصر على حادثة واحدة ؛ لأن الأدلة غير العقلية يتطرقها احتمال عدم الملازمة بأن يكون ما أصاب قوما من أولئك على وجه الصدفة والاتفاق ، فإذا تبين تكرر أمثالها ضعف احتمال الاتفاقية ؛ لأن قياس التمثيل لا يفيد القطع إلا بانضمام مقومات له من تواتر وتكرر .
وإنما ابتدئ بذكر قصة موسى ثم قصة إبراهيم على خلاف ترتيب حكاية القصص الغالب في القرآن من جعلها على ترتيب سبقها في الزمان ، لعله ؛ لأن السورة نزلت للرد على المشركين في إلحاحهم على إظهار آيات من خوارق العادات في الكائنات زاعمين أنهم لا يؤمنون إلا إذا جاءتهم آية ؛ فضرب لهم المثل بمكابرة فرعون وقومه في آيات موسى إذ قالوا : ( إن هذا لساحر مبين ) وعطف ( وإذ نادى ربك موسى ) عطف جملة على جملة ( أو لم يروا إلى الأرض ) بتمامها .
ويكون ( إذ ) اسم زمان منصوبا بفعل محذوف تقديره : واذكر إذ نادى ربك موسى على طريقة قوله في القصة التي بعدها : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم ) . وفي هذا المقدر تذكير للرسول عليه - الصلاة والسلام - بما يسليه عما يلقاه من قومه .
ونداء الله موسى الوحي إليه بكلام سمعه من غير واسطة ملك .
وجملة ( أن ائت القوم الظالمين ) تفسير لجملة ( نادى ) ، و ( أن ) تفسيرية . والمقصود من سوق هذه القصة هو وذلك عند قوله تعالى : ( الموعظة بعاقبة المكذبين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ) إلى قوله : ( وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) . وأما ما تقدم ذلك من قوله : ( وإذ نادى ربك موسى ) إلخ فهو تفصيل لأسباب الموعظة بذكر دعوة موسى إلى ما أمر بإبلاغه وإعراض فرعون وقومه وما عقب ذلك إلى الخاتمة .
واستحضار قوم فرعون بوصفهم بالقوم الظالمين إيماء إلى علة الإرسال . وفي هذا الإجمال توجيه نفس موسى لترقب تعيين هؤلاء القوم بما يبينه ، وإثارة لغضب [ ص: 104 ] موسى عليهم حتى ينضم داعي غضبه عليهم إلى داعي امتثال أمر الله الباعثه إليهم ، وذلك أوقع لكلامه في نفوسهم . وفيه إيماء إلى أنهم اشتهروا بالظلم .
ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البيان من القوم الظالمين وهو قوله : ( قوم فرعون ) ، وفي تكرير كلمة ( قوم ) موقع من التأكيد فلم يقل : ائت قوم فرعون الظالمين ، كقول جرير :
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلفينكم في سوءة عمر
والظلم يعم أنواعه ، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة ، ومنها ظلمهم الناس حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم ، وتقدم استعماله في المعنيين مرارا في ضد العدل ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) في البقرة ، وبمعنى الشرك في قوله : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) في الأنعام .واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدئ به نداء موسى مما هو في سورة طه بقوله : ( إني أنا ربك فاخلع نعليك ) إلى قوله : ( لنريك من آياتنا الكبرى ) ؛ لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتعاظ بعاقبتهم . وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربه ورسالته معا ، فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير .
والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم . وهذا إيجاز يبينه قوله : ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ) إلى آخره .
وجملة ( ألا يتقون ) مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأنه لما أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ، ووصفهم بالظالمين كان الكلام مثيرا لسؤال في نفس موسى عن مدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لموسى على بلوغ الغاية في الدعوة ؛ وتهيئة لتلقيه تكذيبهم بدون مفاجئة ، فيكون ( ألا ) من قوله ( ألا يتقون ) مركبا من حرفين همزة الاستفهام و ( لا ) النافية . والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم ، وتعجيب موسى من ذلك ، فإن موسى كان مطلعا على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد علم مظالمهم ، وأعظمها الإشراك وقتل أنبياء بني إسرائيل . . . .
[ ص: 105 ] ويجوز أن يكون ( ألا ) كلمة واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة ( ألا يتقون ) بيانا لجملة ( ائت ) والمعنى : قل لهم : ألا تتقون . فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها . وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) فإن جملة ( أن اعبدوا الله ) مفسرة لجملة ( أمرتني ) . وإنما أمره الله أن يعبدوا الله رب موسى وربهم فحكى ما أمره الله به بالمعنى . وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات : ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) .
والاتقاء : الخوف والحذر ، وحذف متعلق فعل ( يتقون ) لظهور أن المراد : ألا يتقون عواقب ظلمهم . وتقدم في قوله تعالى : ( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) في سورة الأنفال .
ويعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى .
وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) في البقرة . وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى : ( إلى فرعون وملئه ) في الأعراف .