إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم "
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله : لو كانوا يعلمون المفيد أنهم لا يعلمون - أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها ، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضا ؛ دفعا بهم إلى أن يتهموا عقولهم ، وأن عليهم النظر في حقائق الأشياء تعريضا بقصور علمهم كقوله تعالى : والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي علمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية ، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية ، فعموا وصموا عن هذا وذاك .
و " ما " من قوله : ما تدعون يجوز أن تكون نافية معلقة فعل يعلم عن العمل ، وتكون " من " زائدة لتوكيد النفي ، ومجرورها مفعول في المعنى لـ تدعون [ ص: 254 ] ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد . ومعنى الكلام : أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودا ، ولكنكم تدعون أمورا عدمية ، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم ؛ لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية . فهي في بابها كالعدم ، فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية . ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله ؛ لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه ، وهذا كقوله تعالى : ليست النصارى على شيء في سورة البقرة ، و لستم على شيء في سورة المائدة ، ، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب . وكقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الكهان : إنهم ليسوا بشيء
وحاصل المعنى : أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرب لها مثلا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلا بالعنكبوت الذي اتخذها ، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في وفي أنها كالعدم . إبطال إلهية الأصنام
ويجوز أن تكون " ما " استفهامية معلقة فعل يعلم عن العمل ، من باب قولهم : علمت هل زيد قائم ، أي علمت جوابه . و " من " بيانية لما في " ما " الاستفهامية من الإبهام ، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم . ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل " ما تدعون من دون الله " ، أي قد علم الله ذلك ، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتا ، وللمعبودات مثلا ببيت العنكبوت ، وأنتم لو سئلتم : ما تدعون من دون الله ، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابا ; فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها ؛ لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها ، فلا يلبث قليلا حتى يفتضح فاسد معتقده ؛ من تعذر إفصاحه عنه .
وجعل بعض المفسرين يعلم هنا متعديا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى " يعرف " ، وجعل " ما " موصولة مفعول تدعون والعائد محذوفا ، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يئول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل " علم " وفعل " عرف " عند من [ ص: 255 ] فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة ، وأنها أضعف من العلم ؛ لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها .
وعن " العلم معرفتان مجتمعتان ، ففي قولك : عرفت زيدا قائما ، يكون " قائما " حالا من " زيدا " ، وفي قولك : علمت زيدا قائما ، يكون " قائما " مفعولا ثانيا لـ " علمت " اهــ . يريد أن فعل " عرف " يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات ، وفعل " علم " يدل على إدراكين ، هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها ، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق ، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله ، فكيف يسند إليه ما يئول بمعناها . الخليل بن أحمد
وجملة وهو العزيز الحكيم تذييل لجملة إن الله يعلم ؛ لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني " ما " تدل على أن الذي بين حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها ، مع وفرة أتباعها ، ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألبا عليه - فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرها من يحقرها كقوله تعالى : " قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " كما تقدم ، وأنه لما فضح عقول عبادها لم يخشهم على أوليائه بله ذاته ، فهو عزيز لا يغلب ، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك .
وقرأ الجمهور " تدعون " بالفوقية على طريقة الالتفات ، وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية .