لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شئونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق ، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم .
وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيها لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم ، حتى إذا أجادوا التأمل واستقروا مظان الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنوا أن ليس ثمة ظلم أشد من ظلم هؤلاء .
[ ص: 35 ] وإنما كانوا أشد الظالمين ظلما لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه ، وأشد من المنع أن يمنعه مستحقه ويعطيه من لا يستحقه ، وأن يلصق بأحد ما هو بريء منه . ثم إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد ، وقد يثبتان بأحكام الشرائع ، وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت . ومدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول ، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول ، وعلى تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل ، وعلى رمي الرسول - عليه الصلاة والسلام - بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتانا وكذبا ، فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا أشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها ، فكانوا أظلم الناس ؛ لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول .
وتقييد الافتراء بالحال المؤكدة في قوله : كذبا لزيادة تفظيع الافتراء ؛ لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس ، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمدا لا تخالطه شبهة .
وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله : لما جاءه لإدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها ، وكان شأن العقلاء أن يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه ، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به .
وأيضا فإن " لما " التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بدارا عند مجيء الحق ، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر .
وجملة أليس في جهنم مثوى للكافرين بيان لجملة ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وتقرير لها ؛ لأن في جملة ومن أظلم ممن افترى على الله إلى آخرها إيذانا إجماليا بجزاء فظيع يترقبهم ، فكان بيانه بمضمون جملة أليس في جهنم مثوى للكافرين ، وهو بألفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم ؛ إذ جعلت مثواهم .
فالمثوى : مكان الثواء . والثواء : الإقامة الطويلة والسكنى .
[ ص: 36 ] وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم .
والتعريف في الكافرين تعريف العهد ، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبل بأنهم افتروا على الله كذبا وكذبوا بالحق ، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم ، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر .
والهمزة في أليس في جهنم مثوى للاستفهام التقريري ، وأصلها : إما الإنكار بتنزيل المقر منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوما له ، وإما أن تكون للاستفهام ، فلما دخلت على النفي أفادت التقرير ؛ لأن إنكار النفي إثبات للمنفي ، وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية . وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي ، ومنه قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة ، وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام . جعل كون جهنم مثواهم أمرا مسلما معروفا بحيث يقر به كل من يسأل عنه ، كناية عن تحقق المغبة على طريقة إيماء الكناية .